د. أماني فؤاد تكتب .. التي لم أملكها قَط

تتلألأ الدموع في عين امرأة روسية على شاشة التليفزيون، تقول: حَطَّ الموت علينا في غفلة من الزمن. وحين سألها المراسل عن البيع والشراء؛ قالت: لم يخرج من محلها اليوم سوى وردتين، خرجتا دون أن تتقاضى نقودا من الشاب الذي أخذهما، الوردتان كانتا لأمه التي ترقد بالمستشفى متصلة بجهاز التنفس، تحكي صاحبة الورد: إنه كان خجِلًا وهو يطلبهما، فلم يكن يملك نقودا، استغنوا عنه بعد أن أغلقوا المطعم الذي يعمل به.
لا يمكنه أن يلمسها، أو يعطيها الزهرتين بنفْسه، يمنعونه أن يقترب، سيلوِّح لها فقط من خلف زجاج بمجرد أن يلمحها تفتح عينيها، سمعت إحدى الممرضات – وهي تمر بالردهة – رغبته الصامتة؛ فأخذتْهما ودخلتْ غرفة العناية، ووضعتهما بجوارها، اختارهما لحُبِّها زهور عصفور الجنة، قال لسيدة الورد: إنه كان كلما سألها لماذا تحبِّين هذه الزهرة، أجابت: لأجنحتها التي لم أملكها قط.

عالقان في الزمن، ربما في منطقة ما بين الموت والحياة قد خُلقا معا، كشأنه معها منذ أن ولدته لم يستقرا بأرض أو سماء، بسعادة أو حزن، بفقر أو استغناء، كانا دائما في مرمى الرياح حسبما تُلقي بهما، شعر دوما أن معهما ثالثا، كان يراه بعينيها، وحين سألها عنه قالت: إنه الخوف.

كلما غاب عن عينيه خفقانُ قلبها؛ شَعرَ بالمرارة في حلْقِه، بالوحدة التي تحط طبقاتها فوق رأسه كجبال صخرية سوداء، ينتظر أن تفتح عينَيها، أن تترك أية إشارة؛ لكنها لا تفعل، هل تشعر به؟ هل ترَاه؟

حين سقط جفناه دون أن يشعر؛ خفق قلبه بعنف، وهو يرى لأمه جناحين يشبهان تماما الوردتين اللتين بجوارها، وجدها تعلو وتحلِّق، تعجَّب: لمن ستتركه؟ وأين ستذهب؟ استيقظ على هَلَعِهِ، على إلزامهم له بمغادرة المكان، كان الطريق طويلا وباردا، كان لا أحد على الإطلاق.

في الصباح، تعجَّب وهو ذاهب إلى المشفى، فلقد خلا محل الزهور تماما، سأل صاحبة الورد؛ قالت: إنها ظلت طوال الليل تطرز أجنحة عصافير الجنة على وريقات زهورها، وبمجرد أن فتحت المحل صباحا، رأتهن يحلِّقن، ربما تهبهم الأجنحة بعضًا من الوقت، قالت أيضا ما دلالته إن الموت مثل طائر مجهول، له جناحان كبيران، وأنه يحوم فوق الأرض الآن.
حين ذهب متلصصا من خلف الزجاج؛ وَجَدَ فراغا، لكنه سمع صوت جناحين يضربان بوَهَنٍ في الهواء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار