فريد زهران يكتب.. قراءة جديدة في إجابات قديمة (6)

 

كتبت هذه الورقة في أواخر 2014، وهي إعادة قراءة، أو بالأحرى كتابة لجُزءٍ كبير من ورقة كتبتُها وتَمَّ تَداوُلها في منتصف فبراير 2011 والثورة لا تزال في الميدان، وأعيد هنا نشر هذا الجزء لأنني أعتقد أنه لا يزال صالِحًا ومُفيدًا حتى هذه اللحظة، ويحمل إجابة على كثير من الأسئلة المثارة من 25 يناير وحتى الآن، وفيما يلي الحلقة السادسة من هذه الورقة.

ماذا حدث خارج ميدان التحرير؟
أو ماذا عن موجة الاحتجاجات الاجتماعية؟

ثورة 25 يناير لم تكن “انتفاضة خبز” تقليدية مثل انتفاضة يناير 1977، أو انتفاضات الخبر، التي شهدتها عدَّة بلدان عربية، مثل الجزائر أو الأردن؛ فالدوافع الاقتصادية/ الاجتماعية التي ميَّزَت انتفاضات الخبز لم تكن هي الدوافع الرئيسية التي أطلقت الثورة من عقالها، رغم أنها كانت جزءًا من الدوافع المهمة لبعض المشاركين، حيث يمكننا القول إن الأمر الجامع بين كل المشاركين كان رفضَ القهرِ بكل أنواعه وأشكاله، وحتى الذين خرجوا لدوافع اقتصادية / اجتماعية، كان رفضهم للفقر والإفقار هذه المرَّة مُرادِفًا لرفضهم للقهر، شأنهم في ذلك شأن مَن خرج رفضًا للقهر الثقافي أو القهر السياسي… إلخ، والبحث عن الكرامة عند المشاركين المقهورين الفقراء هو ما كان يجمع بينهم وبين الباحثين عن الكرامة لأسباب سياسية أو ثقافية، ولعل هذا ما يفسِّر كيف أن الجوعى والفقراء الذين شاركوا في يناير 2011 لم يخرجوا ردًّا على قرارات اقتصادية مُحدَّدة مثلما حدث في كل انتفاضات الخبز، ولم يخرجوا طلبًا لزيادة ما في الأجور، أو تخفيضًا ما في الأسعار تقيهم شَرَّ الجوع، وإنما خرجوا لأن الفقر قهرهم ونال من كرامتهم، وبصياغة أخرى: لأنهم تعرَّضوا جرَّاء الفقر لقهر اقتصادي، ومن ثم فقد طالبوا بالكرامة الإنسانية أوَّلًا وقبل أي شيء آخر، طالبوا بتحريرهم من هذا القهر الاقتصادي، وبالطبع فإن التحرُّر الاقتصادي من القهر كان يعني، أو ربما بالأحرى يتضمَّن كل ما يمكن أن يقي هؤلاء المقهورين شرَّ هذا القهر، أي يتضمَّن زيادة الأجور، وخفض الأسعار… إلخ.
بسبب هذه الطبيعة -غير التقليدية لثورة 25 يناير- لم يفهم الكثير من المراقبين والمُحلِّلين أسباب هذه الثورة ودوافعها، بل واعتبر بعضهم أن عدم وضوح هذه الأسباب والدوافع هو أمر لا يمكن تفسيره إلا بالبحث والتحرِّي عن مؤامرة أو مؤامرات تفسِّر ما اعتبروه غامضًا وغير مفهوم، ولخَّص البعض الأمر بأن الشباب “عايز يبقى له دور”، بل ووعدوا الشباب بأن يوفِّروا لهم الدور الذي يطلبونه أو يتمنَّونه، وكانت الترجمة العملية لهذه الفكرة عند قوى الثورة المضادة تقضي برشوة بعض القيادات الشبابية وإفسادهم.
دخل الأمر برُمَّته إلى مسار جديد عندما بدأت موجة الاحتجاجات الاجتماعية ترتفع بعد اندلاع الثورة بأسبوعين تقريبًا، وهو ما كان يُنذر بانفجار واسع يعصف بكل أُسُس وأركان النظام، وكانت موجة الاحتجاجات الاجتماعية هي التطوُّر الطبيعي للشرارة التي اندلعت في 25 يناير، أو بصياغة أخرى هي بدايات تبلور برنامج مطلبي مُحدَّد للطبقات الاجتماعية الأكثر فقرًا التي شاركت في الثورة، ومنذ اليوم الأول لبداية موجة الاحتجاجات الاجتماعية بدا واضحًا عداء قوى الثورة المضادة لهذه الموجة التي أطلقت عليها فورًا “تحرُّكات أصحاب المطالب الفئوية”، وهكذا تمَّ وَصمُ هذه الموجة بأنها “مطالب” لـ “أصحاب مصالح فئوية” بينما يقتضي حب الوطن أننا “ما نقولش إيه ادِّيتنا مصر” وإنما نقول “هَنِدِّي إيه لمصر”، وعيب أصلًا أن يكون لنا “مطالب” أو “مصالح” في ظل الظروف الصعبة التي يمرُّ بها الوطن، وكمان لازم المطالب تكون للبلد كلها مش لفئة مُحدَّدة، و”اللَّا احنا عايزين نقسم البلد ؟!”.
كتبت في ذلك الوقت تحت عنوان “اللحظة السياسية الراهنة و تحديد المهام العاجلة”: “بدأت موجة الاحتجاجات الاجتماعية تقريبًا في اليوم الخامس عشر أو السادس عشر للثورة، ونحن نعتقد أن هذه الموجة التي كانت تشي بعصيانٍ مَدَنيٍّ شامل قد تفضي إلى تقويض كلِّ أبنية الدولة ومؤسساتها كانت أحد الأسباب الرئيسية لتنحِّي الرئيس مبارك، ومن ثم فإننا نرفض كل التحليلات التي حاوَلَت التقليل من أهميتها، أو اعتبارها مُقدِّمةً لفوضى أو اعتبرتها ثورة أخرى لها دوافع أخرى وأهداف أخرى؛ فهذه الموجة في التحليل الأخير خرجت هي الأخرى ضد القهر، القهر الاقتصادي المباشر، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن تندلع في أماكن العمل، ولم تكن هذه الموجة بعيدة عن الشعار الرئيسي: «الشعب يريد إسقاط النظام»، بل هي الأخرى حاوَلَت أن تحصل على مطالب ما بعد إسقاط النظام، وكل التخوُّفات التي ذهبت إلى أن هذه الاحتجاجات قد تؤدِّي إلى انهيار الدولة هي تخوُّفات مشروعة، ومن ثم فإن على الدولة أن تستجيب لهذه الموجة بسرعة، وعبر آليَّاتٍ مختلفة عن الأساليب البطيئة والمتردِّدة التي تَمَّ بها الاستجابة إلى المطالب السياسية، ونعني بالاستجابة هنا تحديدًا: تحقيق المطالب المشروعة مع شفافية كاملة ومفاوضات معلنة تحصر وتحجم وتجهز على ما قيل من وجود مطالب شخصية أو فئوية غير منطقية أو غير عادلة أو غير مشروعة، مثلما هو حال -مثلًا- هؤلاء الذين اعتدوا -في غيبة الدولة- على الأراضي الزراعية وبنوا عليها، فهذا السلوك لا يُعبِّر عن مطلبٍ عادل لبعض الناس انتزعوه في خِضَمِّ العملية الثورية، وإنما يُعبِّر عن جريمة على المجتمع كله، حتى لو حقَّقَت مكاسب لمن قام بها. باختصار: علينا أن نفاوض كلَّ المحتَجِّين ونُلبِّي فورًا كلَّ ما هو عادل من مطالبهم، بدلًا من أن نطلب منهم الانصراف إلى العمل وكأننا نحاول أن نحرمهم من ثمار ثورة شاركوا في صُنعها”.
والآن، يمكننا أن نقول إن الدولة لم تستجب لمطالب الناس الفئوية العادلة، لكن الأمر بدا للحظة وكأن مصر في طريقها إلى توفير آليات ديموقراطية من شأنها أن تسمح بتنفيذ ما هو مُمكِنٌ وعادل من هذه المطالب من خلال آليات التفاوض الاجتماعي التي تستند على توفُّر حقوق التعبير والتنظيم والاحتجاج السِّلمي حيث تمَّ بالفعل، وفي سياق العملية الثورية التي بدأت في 25 يناير، انتزاع هذه الحقوق، لكن التطوُّرات التي حدثت بعد ذلك سحبت هذه الحقوق مرتين: مرة لأنها حرام، ومرة لأننا في حرب ضد الإرهاب، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولكن التاريخ في مصر -بل و في العالم كله- يعلمنا أن عدم توفر آليات التفاوض الاجتماعي قد يكتم الصراع الاجتماعي، لكنه لا يلغيه، أو بصياغة أخرى يعلِّمنا أن: “القمع يؤرِّخ للثورة”.
نشر في البوابة نيوز بتاريخ
27/11/2014

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار