د. مجدي عبد الحميد يكتب: الحرب في أوكرانيا هل من ضرورة للاستمرار ؟

يشكل اقليم الدونباس الواقع في الجزء الشرقي من الأراضي الأوكرانية والمتاخم للحدود الروسية من ناحية الغرب نقطة ملتهبة طول الوقت، منذ تفكيك الاتحاد السوفيتي واستقلال جمهورياته بما في ذلك الجمهورية الأوكرانية.
وبعيدا عن الطرح الروسي القائل بوحدة الأراضي الروسية الأوكرانية، والأبعاد التاريخية للروابط والتداخل بين السكان والأراضي وخاصة في تلك المناطق الحدودية، الأمر الذي متنته سنوات طوال إبان الحقبة السوفيتية، فإن حقيقة وجود أعداد كبيرة من سكان ذلك الإقليم الذين تتشابك مصالحهم وروابط الدم وغيرها من الروابط الاقتصادية والثقافية مع سكان المناطق الغربية لجمهورية روسيا الاتحادية، لا يمكن تجاهلها أو التعامل معها باستخفاف.
فوجود نسبة كبيرة من سكان ذلك الاقليم الراغبين في الانفصال عن اوكرانيا، سواء من يرغبون في الانضمام الي روسيا، أو من يريدون اقامة دولتهم المستقلة، هي حقيقة اكيدة، كذلك وجود ميليشيات من القوميين المتشددين الاوكران الذين يستخدمون العنف في مواجهة هؤلاء الانفصاليين هي ايضا حقيقة لا مراء فيها.
والأمر عند ذلك الحد كان ممكن النظر اليه والتعامل معه باعتباره نزاعا اقليميا، مثله مثل عشرات النزاعات الحدودية المنتشرة في جميع انحاء العالم، مهما زادت حدتها، حتي لو تحولت الي حروب يتم التدخل وتسويتها بمساعدة أطراف خارجية، وهو ما كان ليحدث لتسوية ذلك النزاع لو أن تلك هي حدوده وفقط.

الأبعاد الأعمق للصراع :

لقد شكل سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكيك جمهورياته هزيمة كبري لروسيا التاريخية أمام المعسكر الغربي الذي تقوده أمريكا ويضم دول أوروبا الغربية ويجسد وجوده عسكريا حلف الناتو الذي اصبح بقاءه واستمراره بعد زوال الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي بالكامل مجرد أداة أو آلة عسكرية لتأكيد هيمنة القطب الواحد الذي تقوده امريكا وللمحافظة علي بقاء واستمرار النظام العالمي بصيغته الحالية التي تضمن السيادة والهيمنة لأطرافه في مواجهة روسيا التي بدأت في التعافي واصبحت مرة اخري قوة لا يستهان بها اقتصاديا وعسكريا وتري انها تستحق نصيب اكبر مما هو عليه الوضع الان في ظل النظام العالمي الحالي الذي انفردت امريكا بقيادته علي مدي الثلاثين عاما الماضية.

لم تكتف امريكا بالاوضاع الجديدة التي نشأت عن هزيمة المعسكر الشرقي، وسعت لمحاصرة روسيا في عقر دارها عبر ضم دول المعسكر الشرقي السابق المحيطة بروسيا، الواحدة تلو الأخري، لحلف الناتو العسكري، بكل ما يعنيه ذلك من حصار وتهديد مباشر لها، الي ان وصل الأمر لاتخاذ خطوات عملية نحو ضم اوكرانيا التي تعتبر عمقا استراتيجيا للأراضي الروسية ( رغم كونها دولة مستقلة ذات سيادة ) رسميا لحلف الناتو العسكري، وهو الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديداً مباشراً لأمنها، بل ولوجودها ذاته.

في هذا السياق اختارت روسيا ان تكون هي من يمتلك زمام الأمور ويحدد مسار الصراع، فكانت ضربتها الاستباقية في اقليم الدونباس شرق أوكرانيا بمثابة تحذير لأمريكا ولحلفائها بأنها لن تسمح باقتراب الناتو اكثر من ذلك وبأن اوكرانيا خط احمر.
وبذلك المعني فان الحرب الدائرة الآن علي الأراضي الأوكرانية يمكن اعتبارها بجميع المقاييس، نوع من انواع الحروب العالمية المحدودة، أطرافها : اتحاد الجمهوريات الروسية بقيادة روسيا وبالتحالف بدرجات متفاوتة مع خصوم النظام العالمي أحادي القطبية الحالي من ناحية، والولايات المتحدة الأمريكية زعيمة النظام العالمي الحالي وحلفائها من دول أوروبا الغربية وجميع مكونات حلف الناتو العسكري من ناحية أخري.
وباستبعاد استخدام اسلحة الدمار الشامل من مسرح الاحداث المحدود جغرافيا ( حتي الآن )، فان جميع الاسلحة الاخري المشروعة وغير المشروعة، بما في ذلك استخدام كافة الاساليب والادوات غير الاخلاقية واللا انسانية تستخدم في تلك الحرب، وإن كانت بحساب حتي الآن.

تعقيدات المشهد :

يجسد المشهد الحالي للوضع في اوكرانيا واحدة من أزمات النظام الرأسمالي العالمي القائم، وربما ذروة أزماته، حيث :
* تتشبث امريكا التي ظلت القطب الأوحد المنفرد بقيادة ذلك النظام وفرض شروطها علي الحلفاء قبل الأعداء للهيمنة والحصول علي نصيب الأسد من الثروة والنفوذ واتخاذ القرار، باستمرار الوضع علي ما هو عليه، رغم ما أصاب ذلك العالم من هشاشة داخلية وتناقضات بين كافة مكوناته وعناصره أصبح استمراره معها بتلك الصيغة الحالية صعب حد الاستحالة.
* استعادة روسيا الجريحة، بعد انكسار وتفكيك الاتحاد السوفيتي السابق وتداعي معسكرها الشرقي بالكامل، لمكانتها الاقتصادية والعسكرية ورغبتها التي لا تداريها في الحصول مرة اخري علي نصيبها المعادل لقوتها ومركزها الحالي من السيطرة والنفوذ العالمي المناسبين.
* حيرة أوروبا الغربية وخاصة دولها الكبري مثل المانيا وفرنسا وحتي بريطانيا القريبة جدا من امريكا بين الانصياع لقيادة امريكا وخوض معركة الابقاء علي معادلة النظام الرأسمالي العالمي الحالي بقيادتها وبشروطها ودفع فاتورة الصراع مع روسيا، وبين الخوف من هزيمة امريكا امام الروس وتفكك النظام العالمي الحالي و تغول روسيا عليهم والانفراد بهم حال تفكيك حلف الناتو وخروج امريكا من الملعب الاوروبي ومن اعادة رسم خريطة العالم علي اسس جديدة يتم تحجيمهم فيها لحساب القوي الصاعدة الطامحة في السيطرة علي العالم وازاحتهم من مواقع الصدارة.
* الترقب الصيني وانتظار نتائج الحرب والتي ستؤدي الي ضعف جميع الأطراف المنخرطة فيها، المنتصر منهم والمهزوم علي السواء، بما سيفتح الطريق لها علي مصراعيه لحجز مكان متميز في صدارة المشهد العالمي متعدد الأقطاب الذي سينشأ بالضرورة بانتهاء تلك الحرب مهما طال أمدها.

لقد بدأت الحرب التي كان من نصيب أوكرانيا أن تكون مسرحاً لأحداثها، وتستخدم حاليا جميع أطرافها كافة الأسلحة التي يمكن أن تلحق بالطرف الآخر أكبر الأضرار، قبل ان تصمت المدافع ويجلس الجميع علي مائدة المفاوضات وحساب المكسب والخسارة وما يستحقه وسيحصل عليه كل طرف نتيجة لذلك.
حرب نتوقع لها ان تطول قبل ان يحدث ذلك، حرب نتمني ان تنتهي بخسائر لا تصل الي حد الكوارث الانسانية، حرب سترسم ملامح عالم جديد ونظام عالمي نأمل أن يكون أكثر انسانية مما نحن عليه الآن.

د. مجدي عبد الحميد
كاتب ومحلل سياسي