الاستعباد الوظيفي.. بين لقمة العيش وفقدان الذات
حين يبدأ الإنسان رحلته في سوق العمل، يعتقد أنه يدخل عالمًا من التحديات والفرص، وأنه سيبني نفسه ويحقق أحلامه، لكن مع مرور الوقت، يجد البعض أنفسهم في دوامة من الاستعباد الوظيفي، حيث تتحول الوظيفة من وسيلة لتحقيق الذات إلى قيد يلتف حول الروح، يسرق الوقت، والطاقة، وأحيانًا حتى الكرامة.
الاستعباد الوظيفي هو ذلك الشعور العميق بأنك مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، تعمل بلا هوادة، بلا تقدير، وبلا أفق.. هو أن تشعر بأنك مقبد بعقد عمل، أو بحاجة ماسة إلى الراتب الشهري، حتى لو كان الثمن صحتك النفسية والجسدية، تبدأ أيامك وتنتهي بنفس الروتين، لا مكان فيها للإبداع أو للتنفس، تتحول فيها الأهداف والطموحات إلى مجرد أرقام وواجبات مرهقة.
الاستعباد الوظيفي ليس مجرد ساعات عمل طويلة، أو مهام شاقة، بل هو فقدان الإنسان لشغفه ولإحساسه بذاته، هو أن ترى في عيون زملائك نظرة الانكسار ذاتها، وكأن أرواحهم تُستهلك ببطء، هو ذلك الصوت الداخلي الذي يسأل: “لماذا أستمر؟”، لكنك تُسكتُه لأن الإجابة قد تكون مؤلمة، لأنك تخشى أن تجد نفسك بلا بديل.
المشكلة ليست فقط في ضغط العمل، بل في البيئة التي تجعل الموظف يشعر أنه لا قيمة له.. بيئة تضع الربح فوق الإنسان، وتحول الأداء الوظيفي إلى معركة من أجل البقاء.
في بعض المؤسسات، يتحول المدير إلى سجان، والتقييمات إلى أدوات قمع، يسيطر الخوف من فقدان الوظيفة على العقول، حتى يصبح الموظف أشبه بمن يعيش في سجن مفتوح.
مواجهة الأمر تبدأ من الداخل، لا بد من إعادة النظر في معنى العمل وقيمته في حياتنا.. الوظيفة ليست الحياة كلها، والراتب ليس ثمنًا للروح، يجب أن يكون هناك توازن بين ما نقدمه للوظيفة وما نحتفظ به لأنفسنا.
لا بد من أن نتعلم قول “لا”، وأن نبحث عن شغفنا خارج إطار الوظيفة.. بيئة العمل الصحية هي تلك التي تُقدر الإنسان قبل الأداء، وتفهم أن الاستقرار النفسي هو مفتاح النجاح الحقيقي.
الاستعباد الوظيفي ليس مجرد مصطلح، بل واقع مرير يعيشه كثيرون، ربما حان الوقت لنتوقف عن اعتباره أمرًا طبيعيًا.. الحياة أكبر من وظيفة، والكرامة أثمن من راتب.. قد يكون التغيير صعبًا، لكنه يبدأ بخطوة، وبقرار: “أن نختار أنفسنا أولًا”.