أبقار بلا قرون… وسد بلا حلول

في الشرق الأوسط، لا تمرّ أزمة دون أن يظهر فيها بقرة.
البقرة الصفراء التي “تسرّ الناظرين”، والحمراء التي “تُطهّر الهيكل”، وها نحن اليوم أمام بقرة ثالثة، تشرب من مياه النيل دون دعوة، وتُحلب من خارج الحدود.
سد النهضة الإثيوبي ليس مجرد مشروع هندسي، بل مسرحٌ تُعرض فيه رموز السياسة الإقليمية بألوان الأبقار الثلاثة، بينما تكتفي الشعوب بالتفرّج على العرض من المقاعد الخلفية.
البقرة الإسرائيلية تنتج أكبر كمية من الحليب
في زيارة رسمية عام 2016، وقف رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو داخل قاعة البرلمان الإثيوبي، وألقى خطاباً بلغة رمزية لافتة، قائلاً:
“إن إسرائيل مثل بقرة صغيرة في منطقة صحراوية لا تمتلك الكثير من المياه، لكنها تنتج الكثير من الحليب.”
كان التصفيق عالياً، والابتسامات حاضرة، لكن لم ينتبه الكثيرون إلى أن نتنياهو لم يكن يتحدث عن الزراعة، بل عن عقيدة سياسية:
“نحن لا نملك نهراً، لكننا نحلب الأنهار من بعيد.”
فلا حاجة لبناء السدود، طالما أن لدينا دبلوماسية تمتص ما تريد، وتحوّل العطش إلى حليب سياسي، يُباع ويُشرب على موائد النفوذ.
وفي الوقت الذي كانت فيه مصر تخوض مفاوضات عقيمة لا تنتهي، كان نتنياهو يقدّم لإثيوبيا التكنولوجيا، والأمن، والمشاريع الزراعية، ويضحك وهو يرى البقرة تُحلب من نيل لا يشرب هو منه قطرة.
مفاوضات عقيمة… وقسمٌ بلا قيمة
وسط هذا المشهد، كانت القاهرة تعتقد أن الكلمات تكفي لوقف تدفق الأزمات. دخلت في مفاوضات لا تطوي، تفاوضت على كل شيء: عدد الفتحات، معدلات الملء، توقيت التفريغ… حتى تفاوضت على حقها الطبيعي في الحياة.
وفي لحظة درامية بامتياز، قررت الدولة المصرية اختصار الأزمة بكامل تعقيداتها في مشهد رمزي بديع، بطله رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ومُخرجه الرئيس عبد الفتاح السيسي.
في مؤتمر صحفي أعقب توقيع اتفاقية إطار، أمسك السيسي بالميكروفون، ونظر إلى ضيفه قائلاً:
“قل ورايا: والله… والله… لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر.”
رددها آبي أحمد ثلاثاً، بصوت واثق، وكأن الطمي عاد إلى مجراه، وكأن الفيضان عاد إلى موسمه، وكأن أزمة السد انتهت إلى الأبد.
صفق الحاضرون، وابتسمت الكاميرات، وأعلنت وسائل الإعلام أن الأزمة قد تم احتواؤها.
لكن الحقيقة أن ما جرى لم يكن اتفاقاً بقدر ما كان تفويضاً مفتوحاً لإثيوبيا، تتحكم بموجبه في صنبور النيل كما تشاء. فقد تم تمرير تفاهم يتيح إعادة تمويل المشروع بعد أن كان متعثراً، وكأننا، بكامل إرادتنا، سلّمنا مفاتيح الخزان للطرف الآخر.
في المقابل، استعادت مصر مقعداً شكلياً في الاتحاد الإفريقي، داخل قاعة لا تملك إلا البيانات والتوصيات. وهكذا، تحوّل أحد أخطر الملفات في تاريخ مصر الحديث إلى رهان دبلوماسي خاسر. أما القسم، فصار أشبه بعقد شفهي أُبرم في زريبة… بلا شهود، ولا ضمانات.
إثيوبيا: تدشينٌ على نهرٍ لم يعد لنا… وخطة لحلبه حتى آخر قطرة
“المواشي في إثيوبيا تشرب من مياه النيل أكثر من حصة مصر” — هكذا نطق بها مسؤول مصري، لا على سبيل الدعابة، بل كتصريح رسمي يُفترض أنه يطمئن الناس، فإذا به يلخص حجم الفشل الوطني في جملة واحدة: بقرة لها نصيب… ومواطن عليه أن ينتظر.
وفي الوقت الذي نستعد فيه لتصوير حفل الافتتاح، كانت إثيوبيا تُعد لتدشين ثلاثة سدود أخرى، في خطة واضحة: مش بس نحبس النهر… كمان نحلبه.
أديس أبابا لم تكن تفاوض، بل تسحب الوقت مثل اللبن من الضرع، وتضع على الطاولة وصفة صهيونية مجرّبة: بناء هادئ، مماطلة لبقة، وفرض أمر واقع يُقدَّم على أنه “مشروع تنموي”.
أما نحن، فاختزلنا كل شيء في تصريحات من نوع: “اطمأنوا يا جماعة… البقر شرب الأول.”
هكذا تحوّل النيل من شريان حضارة إلى صنبور خاص خلف حظيرة، يُفتح فقط لمن يحلب أكثر… لا لمن يفاوض أكثر.
أبقار بثلاثة ألوان… وسيادة بلا ظل
في قصة سيدنا موسى عليه السلام، كانت البقرة الصفراء رمزًا للتردد والعجز عن اتخاذ القرار، إذ ضاعت القضية بين الأسئلة عن اللون والعمر والشكل.
أما البقرة الحمراء، في الأسطورة اليهودية، فهي رمز الخلاص وبناء الهيكل. إسرائيل ما زالت تحلم بها، وتنتظر قدومها لبدء مرحلة جديدة من السيطرة الدينية والسياسية، لكنها لم تعد تنتظر البقرة كمعجزة… فدخلت المختبر وصنعتها على مقاس النبوءة. استنسخوا خمس بقرات “مقدسة تحت الطلب”، وكأنهم يقولون: لسنا بحاجة لوحيٍ من السماء، فلدينا تحالفات دولية، وخطة إحلال شامل… تبدأ بالبقرة، وتنتهي بخريطة جديدة للمنطقة.
وفي حالة سد النهضة، لم تنتظر الخلاص، بل زرعته في قلب إفريقيا، عبر مشاريع وتحالفات، جعلت من النيل جزءًا من أمنها المائي.
أما البقرة الثالثة، فهي “بقرة النيل”، التي لا لون لها في الحقيقة، لكنها تُحلب من أكثر من طرف: إثيوبيا تتحكم في الصنبور، وإسرائيل توزّع الأنابيب، بينما تقف مصر، التي كانت يوماً سيدة النهر، على ضفافه تتأمل، وتبحث عن بقرة مقدسة جديدة تُخرجها من أزمة وجودية.
فالنيل لا يسمع، والسد لا يقرأ، والتاريخ لا يرحم.




