هندسة الناخبين… حين يُصنع الشعب على مقاس الصندوق

في مصر، لا تبدأ الانتخابات من يوم التصويت، بل من اللحظة التي يُقرَّر فيها من سيجلس في الصورة، ومن سيغيب عنها، ومن سيتحدث بلهجة المعارضة الآمنة التي لا تؤذي أحدًا. هي ليست عملية ديمقراطية بقدر ما هي مشروع طويل من “الهندسة السياسية” التي تتدرّج من القمة إلى القاع، وتُدار بدقة تشبه صناعة الديكور في مسرح قديم يُعاد عرضه كل عدة سنوات. كل شيء فيها محسوب ومبرمج، حتى العشوائية فيها مُخططة، والانفعال فيها جزء من الإخراج.

الهندسة الأولى تبدأ في القمة؛ حيث تُختار الأحزاب التي ستكمل، وتُحدَّد الوجوه التي ستُمنح فرصة الظهور، وتُرسم خريطة التوازن بين الولاء والمعارضة الشكلية، بحيث لا يتجاوز أحد حدَّه، ولا يغيب أحد تمامًا عن المسرح. الأمر لا يتعلّق بالتزوير، بل بما هو أهدأ وأعمق: بتصميم المشهد نفسه على المقاس المطلوب. وعندما يكتمل هذا الجزء من اللوحة، تبدأ المرحلة الثانية، مرحلة “هندسة الناخبين”، وهي الأكثر تعقيدًا لأنها تتعامل مع الوعي الجمعي لا مع النخبة السياسية وحدها.

هندسة الناخبين لا تعني تزوير إرادتهم المباشرة، بل تعني إعادة تشكيل علاقتهم بالسياسة نفسها. المواطن الفقير يُربَّى تدريجيًا على انتظار الموسم الانتخابي كما ينتظر موسم الحصاد أو المولد، لا باعتباره حدثًا سياسيًا يختار فيه ممثله، ولكن بوصفه موسم رزق مضمون. الكرتونة، والبون، والحسنة — وهي ليست صدقات بقدر ما هي أدوات ضبط اجتماعي — تتحول مع الوقت إلى إشارة ضمنية بأن الدولة “ما زالت تتذكرهم”، ولو من باب التسكين المؤقت. الهندسة هنا تشتغل على مشاعر الحاجة والرضا في الوقت نفسه، بحيث لا ينفجر الغضب، ولا يزدهر الوعي.

أما السماسرة، فهم العمود الفقري للهندسة من أسفل. على مدار السنين، تحوّلت السمسرة الانتخابية إلى مهنة لها قواعدها وأسواقها ومواسمها، يدخلها جيل جديد كل دورة، أكثر دهاءً وخبرةً واتصالًا بالتكنولوجيا والإعلام المحلي. لا أحد يتعامل مع الانتخابات كحدث سياسي، بل كفرصة اقتصادية منتظمة، تُدر دخلًا محترمًا على كل من عرف كيف يوزّع الناس ويُدير الميدان ويحسب الأصوات بالوزن لا بالعدد. ومع الوقت، أصبح السمسار جزءًا من النظام الاجتماعي ذاته، رجل علاقات عامة محلي أكثر من كونه تاجر أصوات.

وفي الظل يجلس حزب الكنبة، الطبقة الأكبر والأخطر، التي اختارت الصمت الواعي لا اللامبالاة. هؤلاء الذين تعبوا من التمثيل، فاكتفوا بالمشاهدة من بعيد. يعرفون أن نزولهم لن يغيّر شيئًا، وأن مشاركتهم قد تُحسب عليهم لا لهم، وأن أقصى ما سيُقال عنهم إنهم “خدوا كرتونة” أو “باعوا صوتهم”. الكنبة هنا ليست هروبًا من الواجب، بل دفاعًا عن الكرامة. إنها موقف سلبي في الشكل، لكنه مقاومة داخلية ضد منظومة فقدت معناها.

وبين القمة والقاع والوسط، تشتغل ماكينة الهندسة بلا توقف. السياسي ينتظر نصيبه في الترتيب، السمسار ينتظر الموسم ليعمل، الفقير ينتظر النفحة ليعيش، والكنبة تنتظر أن تنتهي الجولة لتتأكد أن شيئًا لم يتغير. الكل راضٍ نسبيًا، والكل جزء من المشهد الذي يكرر نفسه بإتقان. الهندسة الحقيقية لا تحتاج إلى تزوير الصندوق، لأنها صنعت الصندوق ومن يقف حوله على هواها، وحددت مسبقًا النغمة التي سيخرج بها الجمهور من المسرح: تصفيقٌ خفيفٌ، وابتسامة رضا، وخطاب رسمي يقول إن “المشاركة كانت كبيرة والإقبال فاق التوقعات”.

في النهاية، الشعب لا يُقصى، بل يُعاد إنتاجه على المقاس المطلوب؛ يُهندس ليتفاعل بالقدر الذي يسمح به النظام، ويصمت بالقدر الذي تحتاجه الدولة. وبدل أن يكون الوعي السياسي طاقة تغيير، أصبح جزءًا من نظام التبريد العام الذي يحافظ على درجة حرارة الاستقرار دون أن يسمح بالنار.

في بلاد أخرى، يُهندَس الاقتصاد ليحمي السياسة،
أما عندنا، فتُهندَس السياسة لتُخدّر الاقتصاد،
ويُهندَس الناخبون ليبدو المشهد كاملًا حتى لو كان خاليًا من المعنى.

وهكذا، يبقى الصندوق شاهدًا على عبقرية الهندسة: لا أحد أجبر أحدًا، ولا أحد غيّر شيئًا، ومع ذلك، انتهى كل شيء كما كان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!