هل حان الوقت لرئيس وزراء سياسي؟

لم يعد السؤال المتعلق بمن يتولى تشكيل الحكومة القادمة سؤالًا إداريًا أو فنيًا كما كان يُطرح في مراحل سابقة، بل أصبح جزءًا من نقاش أوسع حول طبيعة القيادة التي تحتاجها الدولة في لحظة تتقاطع فيها الأزمات الاقتصادية مع حالة اجتماعية مُرهقة، ويتكوّن فيها شعور عام بأن المواطن يواجه وحده صعوبة الحياة بينما الخطاب الرسمي لم يعد قادرًا على فكّ الاشتباك بين الضرورة وبين قدرة الناس على التحمّل. وإذا كان من السهل دائمًا اختيار شخصية تملك خبرة تقنية واسعة، فإن الأصعب اليوم هو اختيار شخصية تستطيع أن تتعامل مع مجتمع لم يَعُد يستقبل القرارات كما كان، ولم يَعُد يكتفي بالتفسيرات المختصرة، ولم يَعُد يرى في البيانات الرسمية ما يكفي لطمأنته أو لربط خط سير الدولة بما يراه في يومه الحقيقي.

 

ومن هنا تظهر الفكرة: أن مصر قد تكون للمرة الأولى في حاجة واضحة إلى رئيس وزراء سياسي، ليس بالمعنى الحزبي أو الصدامي للكلمة، وإنما بالمعنى الذي يجعل صاحبه قادرًا على الإنصات، وعلى صياغة سرد مختلف، وعلى إدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع بما يليق بمرحلة تتطلّب حساسية أكبر ووضوحًا أعمق، واستعدادًا أكبر للاعتراف بالمأزق دون أن يفقد القدرة على الدفع إلى الأمام. فالأزمات الاقتصادية ليست أرقامًا، بل مشاعر؛ وليست جداول، بل توقّعات؛ وليست سياسات مجردة، بل أثر مباشر يقع على حياة الناس، والناس في النهاية لا تتعامل مع “الخطة” بقدر ما تتعامل مع “من يشرح الخطة” و“كيف يشرحها”.

 

وإذا كانت بعض الحكومات السابقة قد نجحت في إدارة التفاصيل الفنية للدولة، فإن اللحظة الحالية لم تعد تحتمل هذا الفصل بين الإدارة والسياسة، لأن المواطن لم يَعُد يتابع تفاصيل القرار بقدر ما يتابع مدى انسجام القرار مع حقائق حياته، ومدى صدق الخطاب الذي يصاحبه. وهنا يكمن جوهر الدور السياسي لرئيس الوزراء: ليس أن يُجمّل الواقع، بل أن يُعيد ترتيب صورة الدولة داخل وعي المواطن، وأن يُعيد تعريف العلاقة بين الجهد والتضحية، وبين الصبر والنتيجة، وبين الضرورة والمقابل. وهذه القدرة لا تتوفر في التكنوقراط مهما كان مستواه، لأنها ليست نتاج خبرة مكتبية، بل نتاج احتكاك طويل بالمجتمع، وبقدرة على تحويل الخطاب الرسمي من بيانات جامدة إلى رؤية قابلة للتصديق.

 

وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل أن البرلمان الجديد يُولَد في ظروف استثنائية، ويصفه البعض بأنه غير مكتمل الشرعية، وهو توصيف لا يستهدف مهاجمة المؤسسة، بل يعكس ببساطة شعورًا مجتمعيًا بأن المجلس القادم لن يكون السند السياسي الذي تستطيع الحكومة الاتكاء عليه في مواجهة الشارع، ولن يكون المساحة التي تتوزع عليها مسؤولية القرارات الثقيلة، ما يعني أن العبء السياسي سينتقل بالكامل تقريبًا إلى رئيس الوزراء نفسه، وأن الحكومة ستكون في مواجهة المواطن مباشرة، دون طبقة تمثيلية قادرة على لعب دور الوسيط أو الصدى أو المراجعة.

 

ولهذا فإن السؤال الذي يجب طرحه ليس: هل هناك شخصية مناسبة لتشكيل الحكومة؟ بل: هل هناك شخصية قادرة على مخاطبة الناس قبل مخاطبة المؤسسات؟ وهل هناك من يستطيع أن يتعامل مع المواطن باعتباره شريكًا في مسار صعب، لا مجرد متلقٍّ صامت لنتائج السياسات؟ وهل هناك من يفهم أن إعادة بناء الثقة ليست إجراءً إداريًا عابرًا، بل عمل سياسي طويل يحتاج إلى وضوح وشجاعة واحترام لعقل الناس قبل أي شيء آخر؟

 

إن مصر اليوم لا تحتاج إلى رئيس وزراء يجيد ترتيب الملفات بقدر ما تحتاج إلى رئيس وزراء يعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة. تحتاج إلى شخصية تدرك أن الاقتصاد بدون شرعية اجتماعية لن يستقر، وأن القرارات بدون سياق سياسي ستظل مُلتبسة، وأن الدولة في لحظة ضغط تحتاج إلى لغة جديدة، لا إلى لهجة جديدة. رجلٌ يستطيع أن يفتح بابًا مغلقًا بين الحكومة والناس، وأن يشرح دون أن يثور، وأن يعترف دون أن ينهار، وأن يقود دون أن يترك خلفه مجتمعًا يشعر أنه يُدفع إلى المجهول.

 

ومهما بدت الصورة معقدة أو متشابكة، فإن لحظات التحوّل الكبرى في حياة الدول لا تُدار بالانتظار ولا بالتذرّع بالظروف، بل تُدار بقيادة تدرك أن مسؤوليتها الأولى ليست أن تُرضي الجميع، بل أن تُقنعهم بأن هناك طريقًا يمكن السير فيه، وأن الدولة ما زالت قادرة على أن تسمع قبل أن تحكم، وأن تشرح قبل أن تُطالِب. وإذا كانت المرحلة القادمة ستشهد قرارات ثقيلة وتحوّلات ضرورية، فإن نجاحها لن يتوقف على النصوص ولا على المؤسسات وحدها، بل على الشخصية التي تمسك بمقعد رئاسة الحكومة، وعلى قدرتها على تحويل السياسة من هامش مهجور إلى أداة لإعادة بناء الثقة. ولهذا يبدو أن السؤال لم يَعُد: من سيأتي؟ بل: هل سيأتي بالقدر الكافي من السياسة ليقود بلدًا يحتاج الآن إلى من يشرح له الطريق كما يحتاج إلى من يفتح له الطريق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!