مصطفى العطيات يكتب : العالم بعد كورونا

‎ان ارتباط الإنسان بالطبيعة حقيقة وواقع لا يمكن تجاهله مهما تطور الإنسان والصناعة والتكنولوجيا. ويمكن تصور هذه العلاقة التي تلخص هذا الارتباط منذ بداية الحياة وحتى يومنا هذا، من خلال بعض الحقائق، منها أن أشجار الشوارع تنقي الهواء من التلوث بنسبة 60 %

‎لم يكن الإنسان في المراحل الأولى من الحضارة المدنية واعياً بتباين علاقته مع الطبيعة، حيث كان يعتبر نفسه جزءاً ذكياً من بنيتها

و

‎نظراً لقسوة عوامل الطبيعة في العصور القديمة وتهديدها لحياة البشر، اندفع الإنسان على مر العصور لابتكار كل ما من شأنه أن يحميه من عواقبها. ومع مضي الزمن تغلب الناس على كل ما يهدد حياتهم ورزقهم، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فمع رخاء العيش تولد الطموح ومع الطموح نشأ الجشع، ومع الجشع استعمر الإنسان الطبيعة واستنفد مصادر عيشه الأساسية.

 

ان التطور الحديث للعالم و الطبيعة سيعتبر الانسان هو سيد و مالك الطبيعة و سيرفع من قيمته و يجعله مركز الكون، هذا التصور سيجعل من الانسان يسعى الى تكريس مكانته و ابراز تفوقه على باقي المخلوقات بابتكار و صنع العديد من التقنيات التي ستمكنه من التحرر من الظواهر الطبيعية و التحكم فيها وًلكن هذا العلم في نفس الوقت قد احدث خللا في نظام الطبيعة و سبب التلوث البيئي للعديد من الانهار و البحار و الاجواء بفعل الاثار المدمرة للمواد الكيميائية و المبيدات الحشرية التي تسمم الاغذية و تلوث المياه و الهواء او بفعل انبعاث الكبريت من المحطات الكبرى لتوليد الطاقة او ظاهرة الاحتباس الحراري التي تؤثر على خصوبة الارض و على الانتاجية الزراعيةو المخزون الغذائي للبشر و تؤدي الى انصهار الغطاء الجليدي القطبي و ارتفاع مستوى المياه البحار فضلا عن الفيضانات و الجفاف و التصحر و كثرة الامراض التي بدات تهدد حياة الانسان بسبب تغير نمط استهلاكه.

 

‎يقول جان جاك روسو : ” لم يكن الإنسان يعرف غير الغريزة، فلم تخالجه رغبة سوى احتياجاته العضوية، ولم يتصور في الكون خيرا إلا الغداء، والجنس والراحة. ولم يتصور فيه شرا إلا الالم والجوع. وكان سعيدا ”

 

و بالتطور العلمي للعقل البشري ظهرت الثورة الصناعية حيث

‎تفجرت شرارتها الأولى في بريطانيا باكتشاف الآلة البخارية في ستينيات القرن الثامن عشر، فتسارعت وتيرة ازدهار صناعة النسيج والصلب وهما أهم الصناعات يومها. وبعد ذلك انتشرت الظاهرة إلى باقي أرجاء أوروبا ثم أميركا الشمالية في مطالع القرن التاسع عشر.

 

‎والواقع أن قيام الثورة الصناعية يبقى في المقام الأول تتويجا منطقيا لتطور علمي هائل جاء ثمرة النهضة الأوروبية التي قامت قبل ذلك بقرنين، كما أنه -بدرجة أقل- نتيجة منتظرة لازدهار الصناعة التقليدية والتجارة العالمية

و بالاهتمام المتزايد بالصناعة و التجارة لم يلتفت الانسان و لم يهتم الى حاجيات الطبيعة على الرغم من علمه و معرفته الاكيدة بعدم قدرته على السيطرة عليها مهم بلغ من تطور تكنولوجي و لعل الافلام السينيمائية و روايات الخيال العلمي التي تناولت موضوع نهاية العالم دائما ما تنتهي الى سببين رئيسيين لانقراض البشرية:

اما حرب نووية بفعل الانسان

او كارثة طبيعية خارجة عن سيطرة الانسان

و هي حقيقة و ليست بخيال علمي في ظل التعامل الحالي للانسان مع الطبيعة و مع نفسه و لعل البعض منا يعتقد ان الكوارث الطبيعية تقتصر على الزلازل و البراكين و الفياضانات التي تكون غالبا منحصرة في اقليم معين حسب الطبيعة الجغرافية الا ان الواقع الذي نعيشه اليوم في ظل جائحة عالمية تنتقل بسرعة لا تكترث بالخصائص الجغرافية غير محدودة باقليم معين يجعلنا مجبرين على اعادة النظر في جوهر علاقتنا بالطبيعة و مزيد الاهتمام بها وًتوجيه البحوث التكنولوجية لفائدتها ووضع استراتيجية. دفاع و وقاية اممية لمواجهة مخاطرها العابرة للقارات في ظل هيكل اممي يبحث فعليا على حفظ السلم و الامن الدوليين.

لقد جاءت فكرة تاسيس اول هيكل يظم جميع الدول بهدف توحيد العالم عقب مؤتمر باريس للسلام 1919 الذي انهى الحرب العالمية الاولى التي دمرت انحاء كثيرة من العالم و خاصة اوروبا بفعل الانسان و بارادته، و اعلن تاسيس “عصبة الامم” التي تهدف للحفاظ على السلام العالمي و منع قيام الحرب عبر ضمان الامن المشترك بين الدول و الحد من انتشار الاسلحة و تسوية المنازعات الدولية عبر اجراء المفاوضات و التحكيم الدولي كما ورد في ميثاقها.

الا انها فشلت في تحقيق اهدافها و لم تتوفر الارادة الحقيقية حينها من القوى العظمى للاتحاد و العمل صلب هيكل اممي و عاد العالم مرة اخرى لحرب عالمية ثانية غير مكترث بمصالح البشرية جمعاء و لا مصالح الطبيعة التي تحتضننا.

و عادة فكرة تاسيس هيكل اممي مرة اخرى بعد الحرب العالمية الثانية في مؤتمر سان فرانسسكو سنة 1945 و تم بعث منظمة “الامم المتحدة” بنفس مبادئ المنظمة التي سبقتها “حفظ السلم و الامن الدوليين” و لكن بالاخذ بعين الاعتبار صلاحيات القوى العظمى و اكد وشرع ميثاق المنظمة هيمنتهم على القرار العالمي بتمكينهم من العضوية الدائمة بمجلس الامن اضافة لاجراء ما يسمى بالفيتو اي حق الاعتراض، و افترض العالم بان الامم متحدة فعلا وًان القوى العظمى سيجنبوا العالم الحروب و سيحل السلام في كل مكان و سيقع المحافظة على سلامة البشرية و الكوكب و الطبيعة وًالاستثمار في البنى التحتية و الصحة و التعليم الا ان الواقع هي ارقام البنك الدولي مارس 2020 خاصة بخصوص دول العالم الثالث

فمقتنيات دول السعودية ومصر والإمارات والعراق وقطر زادت بقرابة الثلثين (61 بالمائة) في مقارنة بين سنتي (2010 -2014) و(2015-2019) وبقيمة جملية ناهزت 100 مليار دولار أمريكي (300 ألف مليارا من المليمات التونسية أي ثمانية أضعاف تقريبا ميزانية تونس) .

الدول المذكورة تتواجد في قائمة الدول العشر الأكثر تسلحا في العالم، إذ نجد أن السعودية تستأثر بأكثر من ثلث الصادرات العالمية من الأسلحة (35 بالمائة) أما مصر فنصيبها (16 بالمائة) والإمارات (9.7) والعراق (9.7) وقطر (9.6 بالمائة)، والمؤسف أن بعضا من هذه الدول يعاني من بنى تحتية في المجال الصحي جد مهترئة وتحوم شكوك كثيرة بخصوص قدرتها على مجابهة فيروس كورونا.

 

و النتيجة امامنا اليوم، الحروب في كل مكان و المصالح وراءها، عجز واضح للامم المتحدة في السيطرة على الوضع و تنفيذ قراراتها في ظل تصاعد الخطاب السياسي اللااخلاقي و التطرف بانواعه و توسع مفهوم العنصرية و تمرد بعض القوى على القرارات الاممية و انغلاقها و التفكير بانانية مفرطة، دول تهدد بالانسحاب من الهياكل الدولية و اخرى تنسحب من المنظمات الاقليمية في اوروبا و امريكا الشمالية و بروز نوع جديد من اشخاص القانون الدولي “الدول في شكل الشركات” تتمتع بكل الامتيازات و الحصانات الدبلوماسية للدول و تتعامل على اساس شركات تجارية عملاقة في الشرق الاوسط وامريكا اللاتينية، كل هذه الظروف هي شبيهة بالظروف التي رافقت فشل عصبة الامم المنظمة الاممية الاولى وستؤدي الى انهيار اممي و لا يمكن الحديث عن امن و سلم دوليين في ظل غياب التفكير و التخطيط في مصلحة البشرية جمعاء،

النتيجة التي يعيشها العالم اليوم هي نتيجة منطقية لتخبط الامم، هي نتيجة منطقية يلاحظ فيها ضعف اممي لمجابهة اول امتحان في القرن 21 للبشرية خارج عن ارادتها، رد فعل طبيعي من الطبيعة نفسها في ظل عدم الاهتمام بها،

يلاحظ اليوم انهيار كارثي لمؤشرات النمو في دول متقدمة و يلاحظ اننا امام خطر انهيار كلي لبعض الاقتصاديات الضعيفة و قد تؤدي لتهديد و زوال بعض الدول الفقيرة الغير قادرة على مواجهة خطر جائحة كورونا الجديدة، و لعل هذه الجائحة جاءت لتعلن حرب على البشرية لتبقينا في البيوت و تذكرنا بان لا قيمة لحرب البشرية مع نفسها طالما انها لم تحقق توازن حقيقي مع الطبيعة و البيئة التي نعيش فيها و احلال السلام معها.

واليوم و الى حد كتابة هذه الاسطر لازالت معظم البشرية لم تتفق على المبادئ التي يجب احترامها لضمان العيش المشترك وًالاهم ضمان البقاء، لعلنا امام مفترق طرق و لحظة تاريخية تقف فيها البشرية امام المراة لتتخذ واحدا من اهم القرارات التي يجب اتخاذها، فاما مواصلة العزلة و الهيمنة والتوسع و انكار قيمة الاخر و الاهتمام بالحدود و مزيد وضع حدود امام الانسانية كلها.

و ليصبح العالم حينها في شكل جديد بعيدا كل البعد عن ابسط مفاهيم “الامم المتحدة” و لينقسم المنقسم و يتصاعد التوتر و الكراهية و التطرف العرقي و الديني و ينتهي حلم الاتحاد الفعلي للبشرية التي لايتطلب من اجل انقاذها الكثير من التنازل، فقط ان نؤمن بوجود تحدي واحد “علاقتنا بالطبيعة و البيئة” التي تحتضننا، و لتبقى القوى عظمى فقط بدل نزاع مسلح يتحول لتنافس اقتصادي و تجاري مشروع.

ان منظمة الامم المتحدة قد فشلت في حماية العالم من فيروس جوهري كما فشلت في وقف الحروب و النزاعات المسلحة، و لم يكن لجهازها المهتم بالصحة العالمية استراتيجية كونية للتوقي و مكافحة مثل هذا التهديد الذي نعيشه اليوم، خيارنا الثاني هو ان نغير ترتيب اولوياتنا فبعد مرور هذه الازمة لنتخيل للحظة ازمة اكبر كالتي تتناولها الافلام السينمائية و روايات الخيال العلمي هل ستتمكن البشرية من انقاذ نفسها؟ هل نحن جاهزون لما هو اسوء؟

ينتظر العالم اليوم اي اجراء من مجلس الامن الذي يعتبر المسؤول الرئيسي عن صون السلم و الامن الدوليين و الذي في اصل مهامه “اتخاذ زمام المبادرة في تحديد وجود تهديد للسلام او عمل عدواني” لكن هذه المرة دون الحاجة لتحريك الاساطيل العسكرية انكا بالعلم فقط.

 

 

 

و لاقتبس من مقولة الفنانة التشكيلية التونسية غادة الخميري :

-على البشرية الْيَوْمَ و الان ان تبدأ في مراجعة ما يحدث فالنبدأ اليوم وندع العجاءب والمعجزات تحدث في حياتنا، فالنواصل ونستمر حتى يزول الظلام و ينبثق الفجر.

– من اجل ان يتغير عالمنا، لابد ان نغير عقولنا من الداخل الى الخارج. فعندما نعتنق هذه الفكرة سوف نجد ان تغيير حياتنا ليس بالصعوبة التي نتخيلها.

– فالنتذكر ان الله قد حكم على الأشياء ان تكون جيدة أو جيدة جدا في طبيعتها و كذلك يجب ان نفعل نحن.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار