د. أماني فؤاد تكتب .. لم أَزَلْ أستدفئ بأنواركما
بمجرد أن ينساب صوت أم كلثوم تغني: “يا ليلة العيد آنستينا” بعد مغرب ليلة عيد الفطر، وآخِر أيام رمضان، كانت أمي تشعل أنوار البيت بطوابقه كلها، أنواره الداخلية والخارجية، بشُرفاته وأنوار حديقته، دفقة من الأنوار التي تعلن العيد والفرح، بعضها يشع على الأرض، والأخرى تتطلع إلى السماء، تخبرها أننا قد وَفَّينا الصوم، تُشرف أمي بنفْسها على اللمسات الأخيرة لتجهيز ملابسنا أنا وأخواتي، تنظِّم أطباق الكعك والبسكويت والحلويات، التي تتفنن في صناعتها، وتقديمها لنا وللزائرين من الأهل والأصدقاء في صباح أول أيام العيد، نتجمَّع وأبي على الأرجوحة المتسعة الدافئة، التي تمتد بين عينَي أمي الواسعتَين العميقتَين، وبسماتها الدافئة التي تجدد الأمل والمحبة، وصوت الست يشدو للعيد والفرح. كانت تتفنن في إعداد التفاصيل التي تحمل على أكتافها البهجة والسعادة، حيث صناعة الفرح موهبة واحتراف وأرواح عذبة.
يهبنا أبي العيدية، التي لم تكن مجرد نقود؛ بَلْ طلاوة لسان، وانتقاء لأعذب معاني الحدب ومفرداته، التعفف عن كل لفظ قد يخدش سمع إنسان، يَهَبُ لنا وعيا وصدرًا رَحْبًا، في حناياه نتدلل ويحتوينا، نتمرد ويتفهمنا ويوجهنا، نتساءل ويجيب فنرفض أو نستكين دون غضاضة منه، عطاءات تلبِّي كل طلباتنا وأحلامنا بقَدْر استطاعته، لم يشعرانا أبي وأمي أبدًا أنه ليس في استطاعتهما شيء، فكل أحلامنا البسيطة مُجابة، وتُنفَّذ دون تفاوُض ما داما يقدران، فحين تَهَبُ الحُبَّ والفهم لمن حولك؛ تتضاءل أمامهم أطماع كثيرة وتتلاشى، فتصبح أقل الأشياء أغناها وأجملها.
أتذكَّر جيدًا كيف كان أبي حريصًا على أن يشعر كل واحد مِنَّا أن كل ما يأتيه من خيرات ونِعم تحت أيدينا، نتشاركه ومتاح أمامنا، لم يكن يعطينا بيده، بل يقول لكل منا: خُذْ ما تشاء، كان أسلوبه وطريقته تجعلك ممتلئًا من داخلك، فكل شيء لك، ولا أحد ينازعك أو يمنعك، فلماذا الاستئثار أو الطمع، نهْجُه يجعلك مسئولًا أمام نفْسك وأمامه، فتأخذ ما تريد فقط، وتظلُّ ممتلئًا طيلة حياتك، دون شعور بالاحتياج لشيء. إنها صناعة الذوات الممتلئة، المكتفية بما لديها، النفوس التي تشتغل على تطوير قدراتها، والتي لا تتطلع لغيرها إلا بمحبة، فتلك من فنون صناعة الحياة السوية التي أجاداها أبي وأمي.
الفرح أيضا والعيد كانا جدتي وأخوالنا وأعمامنا، العائلة التي تشعرك بالمحبة وغِنَى الوجود، النزهات معًا في الطبيعة الساحلية الساحرة، أو الحدائق الخضراء، الحفلات البسيطة حول الموسيقى وأعذب الأصوات، كانت جدتي لأمي تكمل تفاصيل العيد الصغيرة وملذاته الودودة، تصنع لنا الأطعمة الجميلة وصوتها يترقرق بأغنيات ليلى مراد، يتبدَّى مظهرها هي وأمي لتجسِّدا معًا نموذجًا لأناقة المرأة، ليس في الملبس فقط؛ بل سلوكيات وقِيَم الحياة، تحكي لنا القصص المثيرة والعجائبية، وعدتني جدتي بيوم ستخرج فيه سندريلا من الحكاية لتهبني حذاءها الزجاجي الذي تتلألأ أضواؤه كلما وطأت قدماها الأرض وأنتظرها حتى اليوم.
التفاصيل العذبة دون افتعال أو مغالاة هي التي تحمل الفرح، الذكريات التي تكتنز بالمحبة والتواصل الجميل هي ما تهب كياناتنا الامتلاء. هيِّئوا الفرح لكل إنسان بمحيطكم، فالتواصُل الإنساني والمحبة، خيوط شفيفة ممتدة؛ منها يتوالد الجمال الذي يجعلنا نحتمل صراعات الحياة.
أبي وأمي لكما الليلة في السماء بيت مضاء بأجمل الأنوار، لكما قلوب تصفو بعد أن تغتسل بذكريات المحبة، التي تركتماها كأجمل إرث لنا، لكما الأمان والرحمة والسلام.
ابذلوا المحبة، فالوصل الودود ذكاء الأرواح النقية، ويا ليلة العيد آنستينا وجدِّدتي الأمل فينا.