د. أماني فؤاد تكتب ..لعنة الياقوت

 

سقطت السيدة الأنيقة، ارتطم وجهها بقطع البازلت المربعة التي ترصف أرضية الشارع الأثري، هَوَت بعنف، كأن عشرات الأيادي دفعتها باتجاه الصخر، لم يخرج منها صوت، رغم الصرخات الرهيبة التي عصفت بكامل جسدها، زلزل الألم المميت عمقها السحيق، لكنَّ عينَيْ أمِّها حذرتها أن تتفوه بآهة واحدة كالنساء الخفيفات، أمُّها التي ماتت منذ خمس سنوات.
حاولت أن تعاود الوقوف؛ فلم تحملها قدماها، تندفع الدماء من فمها وشفتيها، انخلعت سِنَّتاها الأماميتان من جذرهما، للتو أدركت أنهما ليستا بمكانهما، بإبهامها أرجعت السِّنتَين في فكِّها العلوي في آلم رهيب، بعرض نهر انفتحت شفتها السفلية، غرقت في دمائها، لم تكن تعرف من أين تأتي كل هذه الآلام التي شملت كامل جسدها!؟ عندما حاولت تعديل حذائها لتعاود الوقوف، وجدته غارقا في اللزوجة، تحسست أيضا جرحًا قطعيًّا طويلا في كتفها الأيمن.
حاولت لملمة نفسها والقيام دون جلبة رغم ارتعاشها وصخب أوصالها، خشيت أن تفقد سِنتيها، فعاودت التأكد أنهما في مكانهما، كيف للألم أن يسحق الروح هكذا!؟
يلعن حدسها العميق دعوة العشاء المسمومة تلك، ناولها زميلها ــ أحد الذين كانت برفقتهم ــ فردة من قرطها الياقوتي، وجدها بجوارها فوق البازلت. كانت منذ ساعتين قد شعرت بشيء يخترق مسامها، فوق طاولتها كان ثمة ما هو غريب، عينا (وسيلة) محتقنتان وحمراوان، لوهلة استوقفتها حشرة سوداء على الطربوش الأحمر للمنشد الصوفي، انتبهت لصوت رفيقتها، كانت تثني على عقد الياقوت الذي يزين جيدها، فابتسمت لها قائلة: تفضليه.
طقس غريب غطى الطاولة وطفا فوق الأشياء، بدا المشهد برمته لعينيها كأنه داخل صفحة من مجلات الكوميكس، دائرة فوق أنف (وسيلة)، كانت أصابعها ترتب بعض التعاويذ والتمائم، طلاسم وحروف مقلوبة، فوق الطاولة دائرة أخرى، حليب مسكوب ورأس أفعى تلعق منه، فوق صحنها ثمة دائرة أخرى، جبل أسود حاد الصخور، وعرافة على يديها وشم داكن لطير لم تحدده، اندهشت سيدة الياقوت مما رأت، فهزت رأسها تبدد تلك الأوهام، لحظات وشعرت بشيء يحيل جِلدها إلى بُقع حمراء.
أكثر من سبعة أعوام مرت على الحادثة، وكلما فكرت أن تتزين بالياقوت، تنخلع سِنتاها الأماميتان، ويعاودها الألم الرهيب حين يضرب جناح الطائر الداكن الهواء، ويحط على كتفها، تتمزق ملابسها، وتخترقها (وسيلة) بعينيها الجاحظتين وبجوارها رجُل طويل، نصف وجه شارب غير مهذب، يتضاحكان ويدفعاها من قمة الجبل الحادة السوداء.
لامت نفسها مِرارًا، كيف لعالمة أنثروبولوجيا أن تؤمن بتلك الخرافات، كثيرا ما ابتسمت لمؤلَّفاتها، وعاودت رصها على الأرفف بعناية، لكنها كلما سافرت لذات الموقع؛ حلق سرب من الحشرات السوداء فوق رأسها، نفس الذي حط على الطربوش الأحمر للمنشد الصوفي، وعاودت البقع الحمراء انتشارها على جسدها، فكانت تتحسسها بانسحاق.
في المرة الأخيرة التي توقعت فيها أن تلتقي بـ (وسيلة) تزينت بكامل ياقوتها، وعندما شعرت بعينيها تزداد جحوظا، خلعت فردتي قرطها وصوبتهما تباعا نحو عينيها، نحو تمائمها، وحليبها المسكوب وأفعاها، انتفضت وسيلة وتراجعت للخلف، واجهتها: تخفين خلف أضلعك حمم حقد وكراهية، لعينيك طاقة الشر الدفين، هبت وسيلة تغادر المكان، كانت تتضاءل كلما اقتربت من الباب، لم تستطع أن تمسك بمقبضه، فقط، غيمت عشرات الحشرات السوداء على الطربوش الأحمر للمنشد الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار