حين تفقد المعارضة هويتها: مراجعة نقدية لنهج الحيز المتاح

مع احترامي لوجهات نظر بعض أحزاب المعارضة “أو المحسوبة على المعارضة” بضرورة التمسك بالحيز المتاح الذي تعطيه السلطة لهم لضمان الاستمرارية وتوصيل صوت المعارضة في المجالس النيابية، فإن هذا التوجه، رغم ما يبدو عليه من براجماتية سياسية، يظل خطوة قصيرة النظر.
ذلك أن مكاسبه الآنية لا تقارن بحجم الأضرار بعيدة المدى، ليس فقط على صورة المعارضة ككل، بل على وجود هذه الأحزاب نفسها ككيانات سياسية مستقلة.
أولًا: أن خروج هذه الأحزاب من تحالف المعارضة المدنية يُفقد المشهد السياسي التمييز بين من يُعارض فعلاً ومن يُشارِك شكليًا. فعندما تصطف أحزاب ذات تاريخ أو خطاب معارض داخل قوائم تُهيمن عليها أحزاب السلطة، وتُدار عبر الأجهزة الأمنية، فإنها تفقد أهم ما تملكه: هويتها السياسية.
بل إن الناس لا يرون في مشاركتها إلا إقرارًا ضمنيًا بشرعية النظام الانتخابي القائم، وتجميلًا لصورة ديمقراطية مفقودة. وتدريجيًا، تتحول هذه الأحزاب إلى أجسام فارغة تُستخدم لا تُقرر، وتُكافأ ببعض المقاعد مقابل الصمت أو الترويض.
ثانيًا: هذه الاستراتيجية تؤسس لاعتمادية قاتلة
حين تبني هذه الأحزاب وجودها على ما يُسمّى بـ”الحيّز المسموح”، فهي تربط استمرارها بإرادة من يسمح، لا بإرادة من ينتخب. وتصبح رهينة الرضا الأمني، لا الدعم الشعبي.
ومتى تغيّرت حسابات السلطة، أو قررت تقليص هذا الحيّز، تسقط هذه الأحزاب كما سقط غيرها، لأنها لم تبنِ لنفسها جمهورًا مستقلاً ولا بنية ذاتية مستقلة. وأعتقد أن تراجع عدد مقاعد حزب الوفد داخل ما يُسمي بالقائمة الوطنية دليل واضح على هذا السقوط.
ثالثًا: إضعاف فرص بناء بديل سياسي حقيقي
حين تذوب الأحزاب المدنية في السلطة، فإنها تُغلق الباب أمام تحالف مدني بديل قادر على تقديم مشروع ديمقراطي مستقل.
بل وتخلق إحباطًا لدى الجمهور، خاصة فئة الشباب، الذين يرون في المعارضة نسخة باهتة من النظام، مما يدفعهم إلى الانسحاب من العملية السياسية كليًا. وقد يكون هذا الامر دافع لكثير منهم الى اللجوء إلى خيارات أكثر عنفاً او راديكالية.
رابعًا: تفريغ المعارضة من مضمونها يحوّل البرلمان إلى مسرح بلا نص
وجود معارضة شكلية داخل برلمان صُمم لخدمة السلطة، يُضفي شرعية وهمية، لكنه لا يخلق توازنًا حقيقيًا، ولا رقابة فعّالة، ولا صوتًا يُعبّر عن الشارع. وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن يفقد المواطن الثقة بالكامل في جدوى المشاركة السياسية. وبالتالي يفقد الثقة في النظام السياسي ككل. لأن البدائل جميعها تبدو متماهية، لا تختلف إلا في الشعارات.
خامسًا: هذا التوجه يُضعف الأحزاب لا يُقوّيها
يعتقد بعض قادة الأحزاب أن المشاركة تضمن البقاء، وأنهم يمكن أن “يُحدثوا فرقًا من الداخل”، لكن الواقع يؤكد أن هذه الأحزاب تتحوّل مع الوقت إلى واجهات بيروقراطية، لا تعبر عن مشروع سياسي حقيقي.
الانضمام إلى القوائم الأمنية لا يقوّي الحزب، بل يجرده من استقلاليته، ويُحول كوادره إلى باحثين عن مقاعد لا مبادئ، ويدفع الشباب الجاد إلى الانسحاب أو الهجرة السياسية أو اللجوء الى التنظيمات غير الرسمية.
الخلاصة:
إن التمسك بالحيّز المتاح من قبل السلطة ليس واقعية سياسية، بل هو تنازل تدريجي عن الدور، والهوية، والمستقبل. والمكسب الحقيقي ليس في مقعد برلماني يُمنح، بل في قاعدة شعبية تُبنى، وموقف يُحترم، واستقلالية تُحافظ عليها.
إذا أرادت الأحزاب المدنية أن تعيش، فلا بد أن تُقاوم الذوبان، وتبني بديلًا حقيقيًا، حتى لو كان طريقًا أطول وأكثر مشقة.
فالشرعية السياسية لا تُمنح من فوق، بل تُنتزع من الناس.




