الوعي تحت الحصار

الوعي ليس رفاهية فكرية، بل قوة داخلية تمنح الإنسان القدرة على الفهم والاختيار والموقف. وكلما زاد الوعي بين الناس، زادت قدرتهم على المشاركة والمحاسبة ورفض الظلم. ولهذا، كانت بعض السلطات تخشاه، وتحاول احتواءه أو تغييب أثره. فالمواطن الواعي لا يُقاد بسهولة، ولا يُشترى بصمت، ولا يُرهب بكلمة.
في أزمنة سابقة، كان الوعي الشعبي يتكوّن طبيعيًا في البيوت، المقاهي، الحواري، والأغاني. من لم يكن يجيد القراءة، كان يجلس ليستمع للنشرة، يفهم من النقاش، ويسأل من يثق به. لم تكن هناك منصات توعية، لكن كان هناك مجتمع حيّ، يتحاور ويشرح ويُربي على الانتماء والتساؤل. السياسة لم تكن جريمة، بل جزءًا من الحديث اليومي.
الدولة في ذلك الوقت لم تكن تصنع هذا الوعي، لكنها أيضًا لم تكن قد بدأت في إزاحته. الفن كان أداة لبناء الروح الوطنية: أم كلثوم غنّت “مصر التي في خاطري” فتركتها في خاطرنا فعلًا، وعبد الحليم غنّى “عدى النهار” كأنها بيان شعبي في لحظة انكسار. سيد درويش لحّن لأحلام الناس البسيطة وغنّى للعمال والجنود والفقراء. لم يكن الفن ترفًا، بل كان صوتًا حقيقيًا يعبر عن الناس، ويعلي من قيمة الإنسان، ويمنحه إحساسًا بأنه مرئي ومسموع.
لكن مع مرور الوقت، بدأ مشروع من نوع مختلف. لم تكن المشكلة في تغير الذوق، بل في تفريغ مقصود للوعي. أصبحت الرسالة غير المعلنة من الدولة: “لا تفكر، فقط عِش.” ارتفعت تكاليف الحياة، تراجعت الحوارات، تباعد الناس، وأصبح الكل مشغولًا بالنجاة أكثر من الفهم.
في هذا المناخ، تغيّرت صورة “القدوة”. الأب لم يعد رمزًا، والمعلم لم يعد له هيبة، والفن بدأ يقدّم القدوة بشكل ساخر. ومن الأمثلة الرمزية، مسرحية مدرسة المشاغبين، حيث تحوّل المعلم إلى أضحوكة، والطالب إلى بطل مشاغب. لم يكن الضحك مشكلة، بل المشكلة كانت في الرسائل التي ترسخت بعد ذلك.
التعليم فقد دوره الأساسي. لم تعد المدرسة مساحة للوعي، بل لحشو المعلومات. غابت قيمة السؤال، وساد الحفظ والنجاح بأي وسيلة. في المقابل، تحوّل الإعلام من عين المجتمع على السلطة، إلى لسان السلطة على المجتمع. صوّت واحد يعلو، والباقي يصمت أو يُخوَّن.
ثم جاءت السوشيال ميديا. بدت في البداية كمساحة حرة، لكنها سُرعان ما خضعت لنفس القواعد. تريندات تافهة، جدالات بلا قيمة، وضجيج يغرق أي صوت حقيقي. صار المواطن يستهلك وقته لا وعيه، يُلاحق ما يُعرض عليه دون أن يدري من حدده له.
وهنا دخلت الرأسمالية لتستكمل المشروع. رجال الأعمال، حين أصبحوا وزراء ونوابًا وملاكًا للإعلام، حوّلوا الوعي إلى سلعة تُشترى وتُباع. أصبح المهم أن تستهلك، لا أن تفكر. أن تتابع، لا أن تناقش. أن تنبهر، لا أن تفهم. وأصبحت القيم تُقاس بالإعلانات، والمواقف تُصنع بالمال، والمشاهير يُدفع لهم كي يُوجّهوا العقول حيث يريد السوق، لا حيث يحتاج الوطن.
وهكذا، تم إنتاج وعي جديد… لا يخدم المواطن، بل يُخدّمه. لا يفتح الأسئلة، بل يغلقها. وعي مزيّف، سريع، قابل للتوجيه، ومريح للسلطة ولأصحاب المصالح معًا.
والنتيجة؟ جيل لا يثق في شيء، ولا يحلم بشيء، ولا يرى معنى لما حوله. جيل يُركّز في الخبز، ويهرب للترفيه، ويبتعد عن السياسة لأنها مؤذية أو بلا جدوى. غابت المرجعيات، وسادت السخرية، واختلطت المفاهيم، وصار الجدل بلا هدف، والخلاف بلا عمق.
هكذا يُصنع شعب بلا وعي حقيقي… شعب ينتظر من يُفكر مكانه، ويُقرر له، ثم يُطالَب بالشكر على ما لم يطلبه أصلًا. والمفارقة أن كل هذا لا يصنع استقرارًا، بل هشاشة. لأن الدولة التي تفرط في وعي مواطنيها، تُفرّط دون أن تدري في بقائها.
ربما لا يكون النظام الحالي وحده مسؤولًا عن هذا الواقع، لكن عليه مسؤولية البدء. لا نريد اتهامًا، بل ننتظر شجاعة التصحيح.
فهل تملك الدولة إرادة لإعادة الاعتبار للوعي؟
هل يمكن أن يُتاح للمواطن أن يُفكر دون أن يُدان؟ أن يختلف دون أن يُخوَّن؟ أن يحلم دون أن يُسخر منه؟
هذه الأسئلة لا نملك نحن إجابتها،
لكن الأكيد أن التاريخ لن يُسامح من أصرّ على تغييب وعي الناس،
ولا من تأخّر عن لحظة التغيير




