مجدى عبد الحميد يكتب : الملف ” قصة قصيرة “

 

استجمعت كل ما أوتيت من شجاعة وكتبت له رسالة، مساء الخير عليك أريد أن أراك للأهمية مع تحياتي ومودتي، وقبل أن يصيبها ذلك التردد المعتاد ارسلتها اليه علي الفور.
في اليوم التالي جاءها رده مقتضبا، حددي الزمان والمكان، ومن لهفتها لم تلحظ ولم تتوقف كثيرا عند رده القصير المحايد تماما ولا عند وصول رده بعد أربعة وعشرين ساعة من تلقيه رسالتها، فقط فرحت بأنها ستراه اخيرا بعد فترة انقطاع طويلة لم يتبادلا خلالها الرسائل ولم تصلها أي أنباء عنه.
انشغلت بالتحضير لذلك اللقاء المصيري بالنسبة لها، شعرت اخيرا بارتياح شديد وهدأت روحها بعد فترة طويلة من المعاناة، لماذا تأخرنا كل ذلك الوقت، لماذا أهدرنا كل هذه الشهور والأيام والساعات، لماذا نترك أحلي سنين عمرنا تتسرسب منا ونقف مكتوفي الأيدي، أكل ذلك بسبب الغضب وعدم القدرة علي التسامح ؟ لماذا سمحنا للعناد والكبرياء أن يقفا عثرة في طريق سعادتنا التي كان في مقدورنا أن نبنيها سويا، عموما سأقول له كل ذلك بمنتهي الحب والوضوح، نعم سأعترف له بأنني أحبه كثيرا دون تعالي، سأقر بجميع أخطائي التي أرتكبتها في حقه وسأطلب منه برفق أن يعترف بدوره بأخطائه، لقد ارتكبنا العديد من الحماقات ولكني سأبادر حتي أخفف من وطأة الأمر عليه وسأخبره أننا نستطيع أن نبدأ من جديد وأن ننسي الماضي بكل مراراته، سأعوضه عن كل لحظة الم وكل دمعة حزن طفرت من عينيه وكنت انا المتسببة فيها، سأقول له بمنتهي الشجاعة أننا كنا من الغباء بحيث سمحنا للأمور أن تتطور وأن يزداد الشقاق بيننا الي هذا الحد، أكيد هو يحبني مثلما أحبه سيتفهم ويقبل اعتذاري وسيبادلني الاعتذار بدوره عما اقترفه هو أيضا من اخطاء وخطايا في حقي وفي حق نفسه.
في اليوم الموعود صحت من نومها مبكرا أخذت حماما سريعا وذهبت الي الكوافير ثم عادت الي المنزل لتستكمل زينتها واستعرضت دولاب ملابسها لتختار فستانا شيك يليق بذلك اللقاء الذي طال انتظارها له، فقد ارادت ان يراها في ابهي صورة، وعندما حل الموعد أخذت سيارتها وتوجهت الي ذلك الكافيه علي النيل، المكان المحبب الذي شهد لحظات سعادتهما في السابق.
وصلت قبله ولم يزعجها ذلك حيث وجدت الترابيزة التي اعتادا في السابق الجلوس حولها خالية، فرحت وتفاءلت وتوجهت اليها مسرعة وكأنها تسابق الزمن قبل أن يصل زبون آخر لها، جلست في مكانها المعتاد منتظرة قدومه بفارغ الصبر.
لم يطل انتظارها فقد أتي في الموعد تماما، حياها تحية الغرباء وجلس علي الكرسي المقابل لها وبدي عليه بعض الاضطراب، التمست له العذر وقالت في نفسها ما حدث بيننا في الفترة الأخيرة قبل الانقطاع الكامل ليس بالقليل، لعله لازال يعاني من اثاره حتي الان، وقررت ان تبادر بفتح الحديث لتهوين الامر عليه وعلي نفسها، سألته عن أحواله، كيف تسير أمور الحياة معه، سألته عن العمل وكيف يمضي أوقاته، عن أخبار العائلة، كل ذلك كتمهيد طبيعي قبل أن تدخل في صلب الموضوع، كان وجهها هشا صبوحا والابتسامة الفرحة لا تفارق وجهها طول الوقت وبرشاقة تحسد عليها انتقلت بالحديث الي حيث ارادت وخططت له، استمرت في الكلام مستدعية جميع ملكاتها ولباقتها في عرض رؤيتها ونقل مشاعرها بكل الصدق والحب والأمانة وبنفس الرشاقة التي بدأت بها حديثها توقفت عند لقطة بعينها رأت أنها مناسبة لأن يتدخل هو ويبدأ تفاعله مع حديثها الودود النابع من القلب، أدرك عند توقفها أنها تنتظر رد فعله وأنه قد آن الأوان أن يدلو بدلوه، ومن فوره بدأ الحديث بقوله : بعيدا عن ما حدث من خلافات وعن الإساءات المتبادلة بيننا والآلام التي نتجت عنها في الفترة الأخيرة من علاقتنا، سواء التي وقعت دون قصد منا أو بقصد، فقد تبين لي خلال الأشهر الماضية أن مساحة الاختلاف بيننا كبيرة جدا بما يصعب معه استمرار علاقتنا، وأن ذلك الملف قد أغلق بداخلي ولم يعد له أي وجود واستطرد بعد ذلك في الحديث ….. لفترة لا تعرف بالضبط كم استمرت من الوقت ولا تتذكر حرف واحد مما قال، فقد كانت تنظر اليه وهي شبه مغشيا عليها، وفي صمت تام فتحت حقيبتها وأخرجت منها بعض النقود ثمن القهوة التي احتستها ودون ان تنطق بحرف واحد وضعتها علي الترابيزة وتحاملت علي نفسها وتحركت الي الخارج، نظرت حولها باحثة عن موضع سيارتها ولما لم تستطع التعرف عليها من هول ما أصابها، أوقفت تاكسي وبالكاد استطاعت ان تنطق بعنوان بيتها.
لم تكن صدمتها الكبري في انها ظلت طول الوقت معتقدة ان علي الجانب الاخر يوجد شخص يبادلها حبا بحب وانه مهما كان ما حدث بينهما فان إرادة الحب ستنتصر وتتخطي جميع المعوقات، او ان تلك العاطفة التي تشعر بها نحوه لابد وأنه يشعر بها وان قلبها يستحيل ان يخدعها الي ذلك الحد، وإنما في إحساسها بانها ظلت طيلت الشهور والأيام الماضية تفكر فيه ليل نهار وتحاسب نفسها وتلومها علي ما اقترفت من اخطاء في حق الانسان الذي تكن له قدرا كبيرا من المودة والتقدير في ان واحد وفي حق نفسها، ذلك الشخص الذي تبين لها اليوم انه لا وجود لها في حياته بالمرة، فهي بالنسبة له مجرد ملف !!! أغلق واصبح في طي النسيان.
لو أن الأمر توقف عند حد أنه لم يعد يحبها او حتي اكتشف انه لم يكن يحبها من البداية وأنه ادرك ذلك وليس في استطاعته الاستمرار في تمثيل دور الحبيب لكان اهون عليها رغم قسوته وصعوبته علي قلبها، ولكن الطريقة التي كان يتحدث بها والبرود الشديد البادي علي ملامح وجهه والألفاظ التي استخدمها بدت لها كمن يقتل أحد بسكين تلم وبدم بارد، نعم الالفاظ لا تأتي عفو الخاطر ولكنها تأتي تعبيرا عن حقيقة الأشياء كما هي بداخلنا، الألفاظ تفضحنا، تعرينا، تكشف حقيقتنا وخاصة عندما تخرج من أفواهنا بتلقائية لتعبر بصدق عما يعتمل بداخلنا، عن جوهرنا الحقيقي وخاصة عندما تكون بدون تزويق، الملف هو التوصيف الصادم الذي استخدمه ليعرف به طبيعة علاقته بالاشياء، فالحياة بالنسبة له عبارة عن مجموعة من الملفات بما في ذلك المشاعر والاحاسيس …. مجرد ملفات لصفقات بعضها ينجح ويستمر والبعض الاخر يفشل فيغلقه ويلقيه في سلة المهملات بحثا عن ملف آخر دون ان يهتز له رمش.
مضي بعض الوقت قبل ان تفيق من صدمتها وتبدأ في ترميم روحها من تلك التجربة الأشد قسوة في حياتها علي الإطلاق، لم تكرهه فقد دربت نفسها علي ان لا تكره، ليس فقط لقناعتها الراسخة بان الكراهية مشاعر بغيضة تصيب صاحبها قبل اي شخص اخر، تؤذي روحه وتشوهه من الداخل، ولكن في حالتها تلك انتابتها مشاعر لا تدري ما اذا كانت أسوأ أم أخف من الكراهية، وهي الشعور بالشفقة علي ذلك الكائن المسكين البائس الذي ظنت يوما أنه إنسان.

الملف ” قصة قصيرة ”
الإسكندرية
٦ ديسمبر ٢٠٢٠

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار