منى النشار تكتب..طائرة هزت عرش التنين

 

لايزال العالم يحبس أنفاسه وهو يتابع تداعيات الزيارة التى قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكى نانسى بيلوسى إلى جزيرة تايوان الصينية ,خاصا على ضوء المناورات العسكرية المنتظمة بالذخيرة الحية التى تجريها الصين فى مضيق تايوان الحيوى ,وحول كافة اتجاهات الجزيرة حيث وصلت مدايات بعض الصواريخ إلى المياه الإقتصادية الخالصة لليابان العدو التاريخى للصين والحليف الأمريكى والتى انزعجت بشدة من ذلك ,تلك الإجراءات العسكرية اعتبرت تصعيدية تنذر بعمل عسكرى موسع ضد الجزيرة يحتمل معها عملية الإجتياح من وجه النظر الأمريكية ,استوجبت ردودا عسكرية تصعيدية أيضا,
مثل هذه الإجراءات فى تايوان ذات الموقع الجيو استراتيجى بالغ الأهمية عرض حركة الملاحة الدولية فى هذة المنطقة الخطيرة من العالم إلى تهديد كبير,أثار مخاوف الجوارالجغرافى المعادى للصين ,والتى تعتمد إقتصاداتها على واردات الطاقة والمواد الخام ثم تصدير منتجاتها عبر المضيق والجزيرة.

وتلك الزيارة الطائشة تعبرعن عربدة أمريكية لم تعد تتناسب والشيخوخة الواضحة التى أصابت الولايات المتحدة.
وكأن النظام الدولى لم يتطور ولم يشهد تغيرات جذرية اطاحت بالهيمنة الأمريكية واتاحت المجال لأقطاب أخرى أثبتت فاعلية وقدرة على تحريك الأمورعلى المسرح الدولى فأفشلت المختطات الأمريكية وعصفت بأهدافها فى سوريا وأوكرانيا وغيرها من الملفات.

وحدها الولايات المتحدة العجوز المتصابية تعيش الأوهام عن قدراتها الفائقة فى قيادة العالم ,وحدها الولايات المتحدة الشيخ الهرم تعيش الماضى الذى ولى لتمارس نفس الوقاحة فى زمن الأقطاب المتعددة.
متجاهلة حالة الوهن والشيخوخة التى أصابتها ,بعكس بكين التى تبدو أكثر شبابا غير مستنزفة فى ملفات صراع مترامية الأطراف ,وغير مثقلة بفاتورة باهظة من الصراعات والأعداء كتلك التى يتعين على واشنطون دفعها نتيجة سياساتها فى التدخل فى الشئون الداخلية للدول ورعاية الجماعات الإرهابية وقلب أنظمة الحكم والعدوان الهمجى المتواترعلى القانون الدولى ,والانخراط فى حروب انهكتها وجعلت منها أمريكا الجديدة ,أسدا قد أوجعه تراخى عضلاته فأخذ يزأر بلا تعقل ,أو ثملا قد آلامه حاله فراح يخوض المعارك بلا دراسة.

وتقيم الزيارة الخرقاء لنانسى بيلوسى إلى تايوان الصينية فى ضوء عدة اعتبارات :
– صناعة الرقائق الإليكترونية ,عصب الحياة الإنسانية الحديثة والتى تمثل أهم نقاط القوى الإقتصادية والسياسية لتايوان الصينية ,وما يرتبط بها من قانون الرقائق الإليكترونية الأمريكى المعروف باسم chips-plus والذى اعتمده الرئيس الأمريكى منذ ثلاثة أيام وتعد بيلوسى من أكبر الداعمين للقانون ووصفته بالإنتصار الكبير للعائلات وللإقتصاد الأمريكى ,ويهدف إلى توطين تلك الصناعة بالغة الأهمية الإستراتيجية فى الولايات المتحدة ,ويتيح تقديم اعانات بنحو 53 مليار دولار من أجل انتاج أشباه الموصلات وأبحاثها وجعل الولايات المتحدة أكثر قدرة على المنافسة فى قطاع العلوم والتكنولوجيا وأقل اعتمادا على المزودين الأجانب.
خاصا أن تلك الصناعة لصيقة الصلة بالصناعات العسكرية المتقدمة مما يجعلها مسألة أمن قومى وذلك وفقا لتصريحات جاك سوليفان مستشار الأمن القومى حيث قال إن انقطاع إمدادتنا من الرقائق سيكون كارثيا.
جدير بالذكر أن رمال سيناء تدخل كمكون رئيسى لاغنى عنه فى هذة الصناعة لما تتميز به من دون العالم بمكونات معينة بتركيزات معينه متطلبة.

-الفشل الأمريكى الكبير فى اوكرانيا ودلالاته على الضعف الأمريكى أمام الدب الروسى حليف الصين ,وكذلك فشل الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن فى قمة جدة ,حيث لم يستطع تحقيق معظم أهدافه المنشودة ,مما مثل مزيدا من تدهور السمعة الأمريكية ,وتسبب فى تأكيد الذهنية العالمية المتنامية عن الشيخوخة الأمريكية ,وأزمة عدم الثقة بين واشنطون وحلفائها باعتبارها الحليف الذى لايؤتمن ,الأمر الذى انعكس على وضع واشنطون عامة والحزب الديمقراطى خاصا.

-حالة الانسجام التى تنامت بين روسيا والصين علاوة على حلفائهما الإقليميين حيث كوريا الشمالية فى شرق أسيا ,وإيران فى الشرق الأوسط , فنزويلا فى امريكا اللاتينية ,مما يشكل تهديدا جيوسياسيا لواشنطون ولحلفائها مثل كوريا الجنوبية واليابان.
الأمرالذى استدعى من الولايات المتحدة التصعيد ضد الصين لثنيها عن دعم روسيا أوإفساد تلك العلاقة المزعجة وإرغام الصين للحاق بالركب الغربى لفرض عقوبات إقتصادية على روسيا.

-شهية الولايات المتحدة فى إذكاء أى صراع ,لاتاحة المجال لمصانع السلاح الخاصة فى الولايات المتحدة ,فى تعبير متكرر عن ما اسماه الرئيس الأمريكى الأسبق فرانكلين روزفلت بالتركيبة الصناعية العسكرية ,وقد كان يعنى تلك العلاقة الحميمة بين صانع القرار السياسى وبين ملاك مصانع السلاح.

-الاعتقاد الأمريكى بقرب اجتياح الصين لجزيرة تايوان حيث قال قائد القوات الأمريكية لمنطقة المحيط الهادئ والهندى الأدميرال جون اوكويلينو إن تقديراته بالاستعدادات الصينية لضم تايوان تكتمل فى حدود 2027.

-ولكن الاعتبار الأخطر هو المتعلق ببحر الصين الجنوبى فى إطاره العريض والشامل ,أو الاستراتيجية الأمريكية الإندوباسيفيك ,تحاول هذة السطورعرض إشكاليات المنطقة بأبعادها المختلفة.
جيوسياسيا :تتضمن المنطقة أهم الإختناقات المرورية فى العالم أهمها:
-مضيق ملقا ,يشكل شريان الحياة للصين وللنمورالآسيوية الصاعدة واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان, حيث ينقل إليها عبره المحروقات والمواد الخام ثم صادراتهم إلى العالم ,وهو جه الإتصال الأكثر حيوية بين المنتجات الآسيوية والسوق الأوروبية والأمريكية , وبين مصادرالطاقة العربية وتلك القلاع الصناعية ,ويعد واحد من أهم الممرات المائية فى العالم ,وهو القناة الملاحية الرئيسية التى تربط بين المحيطين الهندى والهادئ ,ويقع فى جنوب شرق آسيا بين شبه جزيرة ماليزيا شرقا ,وجزيرة سومطرة الإندونيسية غربا ,وسنغافورة جنوبا ,وتايلاند وبورما فى الشمال شرقى ,ويصل بين بحر أمدان فى المحيط الهندى وبين بحر الصين الجنوبى.
إقتصاديا: يمر خلاله80% من واردات الطاقة للإقتصادات الآسيوية العملاقة ,وحوالى 50000 حاوية سنويا ,وأكثر من 70% من واردات الطاقة إلى الصين من الخليج وإفريقيا ,ويحتل من 20 إلى 25 % من حركة الملاحة البحرية العالمية.

-مضيق تايوان أو فروموزا ,يعد المضيق الأكثر ازدحاما فى العالم ,وأى اضطراب لحركة الملاحة به تؤثر بقوة على سلاسل التوريد العالمية ,ويتمتع المضيق بوضع دقيق وخاصا لدى تايوان واليابان العدو التاريخى للصين وكوريا الجنوبية غير الصديق للصين ,وسيطرة بكين على المضيق تأتى فى اطار استراتيجيتها للسيطرة على مناطق الاختناقات المرورية ,ومضيق تايوان على وجه الخصوص سيمكنها من تأمين حركة الملاحة الدولية منها وإليها من جانب ,ولاستخدام تلك الورقة فى الضغط على تايوان والدول المعادية من جانب ثانى ,وتهديد القواعد العسكرية الأمريكية المعادية المتواجدة بالقرب منها من جانب ثالث .وتشدد الصين فى هدفها المعلن فى إعادة توحيد جانبى المضيق وتعتبره خطا أحمرا غير قابل للنقاش.
إقتصاديا ,يمر عبر المضيق ما يقرب من نصف حاويات العالم , وحوالى 88% من أكبر سفن العالم حمولة.
تاريخيا مر المضيق بثلاث أزمات تاريخية الأولى كانت عام 1954 بعد الحرب الأهلية الصينية وفرار القومييين إلى تايوان حيث قاموا بنشر قوات عسكرية فى جزر صغيرة محاذية للشاطئ الصينى كيم نين وماتسو الخاضعتين لتايوان ,وقد ردت الصين عسكريا وكاد الأمر أن يتحول إلى مواجهة مباشرة بين بكين وواشنطون ولكن اخمدت الأزمة .والثانية كانت عام 1958 حيث اندلع القتال مجددا عندما قصفت الصين الجزيرتين لطرد القوات القومية المتمركزة هناك ,أمر الرئيس الأمريكى وقتها أيزنهاور بتزويد الحلفاء بالإمدادت العسكرية فى رسالة تصعيدية ضد الصين التى قامت بالتهدأة ووقف إطلاق النار .والثالثة عام 1995 حينما نظمت أولى انتخابات رئاسية فى تايوان ,وقد اجرت الصين تجارب صاروخية فارسلت واشنطون مجموعتين من حاملات الطائرات لدفع الصين للتراجع.
وعلى مر العقود الماضية شهد المضيق العديد من أوجع الإستفزاز الأمريكى حيث تمرمن وقت لآخر مدمرات أمريكية مما يدفع الصين للقيام بمناورات وتدريبات عسكرية وتمرير طائرات استطلاع تخترق مناطق تغطية الدفاع الجوى التايوانى.

-قناة باشى ,وهى ممر مائى بين جزيرة يامى الفلبينية وجزيرة اوركيد التايوانية ,وهما يتنازعان ملكية مياهها ,والقناة جزء من مضيق لوزون فى المحيط الهادئ جنوب تايوان ,وهى ممر مهم للعمليات العسكرية ,ولكن الأخطر أنها ذات قيمة عالية للغاية لشبكات الإتصالات حيث يمر بها عدد ضخم من الكبلات البحرية بين الدول الآسيوية ,الأمر الذى يمثل عنق الزجاجة التى قد تسبب شللا فى الانترنت ,لذا تستهدف الصين السيطرة عليها.
-بحر الصين الجنوبى: يمر به خمسة تريليون دولار من التجارة العالمية بما يمثل حوالى ثلث التجارة البحرية الدولية .ويعتقد أنه يحتوى على سبعة تريليونات برميل من النفط كاحتياطى محتمل ,وحوالى خمسامئة تريليون متر مكعب من الغازالطبيعى وفقا لبعض التقديرات ,علاوة على مصائد الأسماك الغنية.
جيولوجيا ,يتميز البحر بكثرة المناطق الأرخبيلية والجروف القارية والتى زادت من حدة التداخل والنزاع بين دوله.
فلا عجب إذا أن يعتبر المحللون بحر الصين الجنوبى على رأس أسباب الحرب العالمية الثالثة التى بات يسمع أنينها خلف الجدران المتهالكة التى لن تصمد أمام المزيد من التوتر.

-الاستراتيجية الأمريكية الإندوباسيفيك :يقصد بهذة المنطقة جغرافيا كل الدول المطلة على المحيطين الهادئ والهندى وتشمل شرق آسيا والآسيان والولايات المتحدة وكندا وشرق إفريقيا واوستراليا ونيوزيلاندة.
وجاء مفهوم الإندو باسيفيك فى اطار التوجهات الأمريكية الجديدة التى ترى فى الصين عدوا ومن ثم نقل الثقل الاستراتيجى الأمريكى إلى قارة آسيا بهدف احتواء الصين. فى حين تصر بكين على مفهوم آسيا الباسيفيك وتعتبر المفهوم الآخر نسخة من الناتو فى المنطقة.
تمثل منطقة الإندوباسيفيك حوالى50%من سكان العالم ,48%من التجارة العالمية ,57%من الناتج العالمى ,80% من تجارة النفط البحرية العالمية ,وهى أكثر مناطق العالم خطورة عسكريا حيث تضم سبعة من أكثر جيوش العالم قوة وتضم ست دول نووية.
وأهم الأهداف الأمريكية ,الحفاظ على حرية الملاحة ,بناء التحالفات مع الدول المعادية والمنزعجة من الصين ,تعزيز القدرات العسكرية الجماعية لتحقيق الردع.
وفى اطار ذلك اعتمدت واشنطون عدة آليات أهمها التقارب مع الآسيان وتعزيز الدور الإقليمى للهند.

سياسيا :هذه الأوضاع الجيو سياسية المعقدة والحساسة شكلت ملامح المنطقة الأخطر فى العالم.
-من جانب الصين ,اعتمدت إجراءات فى إطار استراتيجية عقد اللؤلؤ ,وهى ذات دلالات جيوسياسية وتعنى جملة من السياسات الإقتصادية والعسكرية على طول خطوط الإتصال البحرية من البرالرئيسى للصين إلى الصومال بالقرن الإفريقى مرورا بمضائق هرمز وباب المندب وملقا.
وهى تقوم على اعتبار بحر الصين الجنوبى بحيرة تابعة للصين ,ومن ثم بناء قوة بحرية ضخمة لحماية مصالحها والدفع بالآخرين خارج هذا المجال ,الأمر الذى تسبب فى نشوب نزاعات حدودية بين الصين وجوارها الجغرافى واعتبروها تعمل على عسكرة المنطقة وتتسبب فى إعاقة اتفاقات تعيين الحدود البحرية ,والأخطر من ذلك تهديد المبادئ القائمة عليها إقتصادات هذة الدول حرية الملاحة وحرية التجارة.
وقد ترتب على ذلك إشكاليات كبيرة فى المنطقة حول حقوق الصيد والتنقيب على الثروات المعدنية ,وكذلك النزاع حول عدد من الجزر المهمة وأبرزها سلسلة جزر سبراتلى وباراسيل ,وعلى الرغم أن محكمة التحكيم الدائمة الدولية فى لاهاى قضت أن الصين لا تملك حقا تاريخيا فى بحرالصين الجنوبى وأنها انتهكت حقوق الفلبين السيادية ورفضت إداعاءات كل من حكومتى جمهورية الصين الشعبية وتايوان حول ما يعرف بخريطة القطاعات التسع ,إلا أن بكين وتايبيه اعترضتا على الحكم ,مما تسبب فى مزيد من تأزم الوضع ,خاصا مع بروناى وماليزيا والفلبين وفيتنام ,ولم يخل الأمر من بعض الإشتباكات العسكرية.
وقد مر هذا النزاع مؤخرا بمرحلتين , فى عام 2002 بعد محاولات لإيجاد إطار تنسيقى لحل تلك النزاعات ,توصلت الأطراف إلى التوقيع على مدونة سلوك فى إطار رابطة الآسيان ,تضمنت التزام الأطراف بحرية الملاحة البحرية والجوية فى المناطق المتنازع عليها ,والإمتناع عن السلوكيات التى تهدد السلم والاستقرار فى المنطقة.
أما فى عام 2010 حدث تحول نوعى كبير عقب مشاركة وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها هيلارى كلينتون فى مؤتمر للآسيان ,طالبت خلاله بضرورة تسوية النزاعات, ترتب على إثر ذلك تشجيع بعض دول المنطقة إلى إجراءات اعتبرتها الصين تصعيدية وخرقا لمدونة السلوك الموقعة.
وبسبب التدخل الأمريكى وتأزم التفاهمات بين أطراف النزاع ,قامت الصين بزيادة إنفاقها الدفاعى بشكل كبير وكذلك قامت بحزمة من الإجراءات أخطرها بناء سبع جزر صناعية ,وقامت بعسكرة ثلاث منهن حيث نشرت أنظمة صواريخ وطائرات مقاتلة ورادرات بهدف زيادة القدرات الهجومية على دول المنطقة خاصا تلك المتحالفة مع واشنطون والتى تحتضن قواعد عسكرية أمريكية بالشكل الذى جعل بكين مؤهلة لإيلام واشنطون ,وذلك وفقا لتصريحات اكويلينيو حيث وصف تلك الإجراءات بأكبر حشد عسكرى صينى منذ الحرب العالمية الثانية ,مضيفا أن أى طائرة مدنية ستدخل فى نطاق أنظمة الدفاع الجوى بسبب تلك الجزر.

-الجانب الأمريكى فقد اعتمدت استراتيجيته فى المنطقة على تحقيق عدة أهداف , تعزيز وجوده العسكرى ,وتوسيع التحالف العسكرى الإقليمى ,ومحاصرة الصين من خلال التحالفات والأنشطة ذات الطابع العسكرى بما فى ذلك زيادة واردات السلاح إلى تايوان ,وبناء شراكات إقتصادية موسعة مع دول المنطقة ,وبناء شراكات خاصة مع دول المضائق المهمة وأبرزهم ملقا وتايوان بهدف التحكم فى واردات الطاقة والمواد الخام التى تقوم عليها الصناعات الصينة.

ورغم المحيط العدائى للصين الذى سهل نفاذ الولايات المتحدة إلى المنطقة ,إلا أن الفوذ الأمريكى يواجه ببعض التحديات ,أبرزها عدم ثقة هذة الدول فى قدرة واشنطون فى الإيفاء بالتزاماتها ,ومركزية العلاقات الصينية ,حيث تنخرط دول المنطقة رغم كل هذة النزاعات فى رابطة الآسيان والتى جعلت حجم التبادل التجارى بينهم ضخما للغاية ,فى محاولة صينية ناجحة كهجوم استراتيجى مضاد للنفوذ الأمريكى.
وقد اعتمدت واشنطن عدة تحالفات :إتفاقية اوكوس ,وقعت 15 سبتمبر 2021بين الولايات المتحدة واوستراليا والمملكة المتحدة وتهدف إلى تعزيز الوجود العسكرى الغربى فى المنطقة وتزويد سيدنى بغواصات حديثة قادرة على حمل رؤوس نووية ,بهدف مواجهة النفوذ الصينى.
وتحالف الأكواد أو صيغة الحوار الأمنى الرباعي بين الولايات المتحدة واوستراليا واليابان والهند ,تأسس عام 2007بمقترح من رئيس الوزراء اليابانى السابق شنزوآبى ,ثم لحق بهم آخرون أبرزهم كوريا الجنوبية ونيوزيلاندا.
ويهدف إلى التنسيق السياسى والأمنى بين دوله بهدف التصدى للممارسات الصينية التى اعتبروها توسعية فى بحر الصين الجنوبى من شأنها تهديد حركة الملاحة الدولية .وقد تعهد الرئيس الأمريكى بايدن فى آخر لقاء تم بين المجموعة مؤخرا على جعل المنطقة حرة ومفتوحة.

وهكذا فلدينا جبهتين واضحتى المعالم ,جبهة الصين وحليفتها كوريا الشمالية من جانب ,والولايات المتحدة وحلفائها الأقوياء المملكة المتحدة واوستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان من جانب ثانى,
وما بين هذا وذاك هناك جبهة ثالثة ,وهى الدول المتوازنة الرافضة للتحيز وتسعى للاستقرار وتتلمس مصالحها بين هذا وذاك.
على رأس هذة الدول ,الهند ودول الطوق لمضيق ملقا الخطير ,سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند وبورما.
أما الهند فتتمتع بوضع خاص جدا ,فهى دولة نووية ,وملتقى البحار فى جنوب آسيا ,وسادس أكبر إقتصاد فى العالم ,ثالث قوة عسكرية عالمية من حيث التعداد وخامس ميزانية دفاعية ,مما يجعلها أكبر قوة مناوئة للصين ,و تشتبك الدولتان فى ملفات أخرى ,فالصين داعم لعدوتها اللدود باكستان ,وهناك نزاعات حول اقليم التبت.
ولكن على الرغم من ذلك فالهند تزامل الصين فى مجموعة بريكس الإقتصادية كما تزامل الولايات المتحدة فى الأكواد , وفوق كل ذلك تعتمد فى تسليحها على روسيا.
اعتمدت الهند منذ 2004 عقيدتها البحرية عبرت خلالها عن طموحها فى أن تكون قوة بحرية مؤثرة فى المحيط الهندى وذلك من خلال التأثير على مداخل المحيط ونقاط الاختناق المرورية فيه والمؤدية إليه من قناة موزمبيق ومضيق باب المندب مرورا بهرمز وحتى مضيق ملقا.
وهو الخط الملاحى الذى تعتمد عليه الهند فى واردات الطاقة والمواد الخام وصادراتها.
وقد قامت الهند فى إطار تلك الإستراتيجية بافتتاح مركز قيادة للبحرية الهندية فى مناطق حساسة للغاية فى جزر اندامان ونيوكوبار شرق خليج البنغال وعلى مقربة من المدخل الشمال غربى من مضيق ملقا على بعد حوالى 90 ميل بحرى ,ويقع فى منطقتها الإقتصادية ,كما قامت بتعزيز وجودها العسكرى من خلال بناء القواعد العسكري البحرية والجوية.
الخطير فى هذا المركز هو اتاحة المجال لنيودلهى مراقبة حركة الملاحة من وإلى مضيق ملقا ,ومكافأة الوجود العسكرى الصينى المتنامى.
وتتقارب الهند مع دول شرق وجنوب آسيا خاصا تلك الدول المطلة على مضيق ملقا ,وتقدم نفسها إليهم باعتبارها شريك جيد يسعى للسلام ,والأهم الشريك الذى يرفض المساس بحرية الملاحة فى المنطقة.
وقد أثارت الممارسات الصينية المخاوف لدي كل هذ الدول, واعتبرت بكين تهديدا خطيرا لحرية الملاحة وحرية التجارة فى المنطقة ,مما تسبب فى جعل واشنطون حاملة لها الكثير من الإغراء ,إلا أن ذلك لايعنى رفع مستوى التفاهم أو التنسيق بينها وبين الولايات المتحدة إلى درجة تكوين جبهة مضادة واضحة ضد الصين.
هذه الدول تراقب فى صمت وتتقارب بحظر ,ولاتريد أن يخرج الصراع الصينى الأمريكى عن السيطرة ,فهى تتفاهم مع الولايات المتحدة بالقدر الذى يخيف الصين ,
لكنها لا تثق فى واشنطون , كما تقلق من بكين ,لذا لا نستطيع أن نتلمس تحالفا واضحا أو إنحيازا سافرا ,ولكن هناك ميل عام يخشى أو يرجى منه أن يتنامى لحد الجبهة الواضحة.
فتايلاند ذات ميول صينية ,وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا والهند ذات ميول أمريكية.
وهناك دول صغيرة لكن موقعها الجغرافى مؤثر ,بورما فى الشمال الشرقى لمضيق ملقا صينية الميل ,وفيتنام تقع جنوب الصين أمريكية الميل ,أما الفلبين جنوب تايوان فوقعت مع الولايات المتحدة اتفاق دفاع مشترك.
هذه الدول تحاول بلا أمل التمترس فى خندق الحياد الآسيوى وهى تعلم أنه سينهار على رؤسها حينما تهب العاصفة.
لذا فأنظار المحللين تتجه إلى هذه الدول والعالم أجمع سيتعلقون بهم حال اندلاع الحرب العالمية الثالثة المنتظرة,
فهذه الدول ستكون لها كلمة فى ترجيح إحدى الجبهتين.

أما عن التداعيات السياسية لزيارة بيلوسى المتهورة ,فى تشكيل خريطة التحالفات الأقليمية والدولية,
فمن الجانب الصينى يرى محللون أن بكين قد تندفع للتمترس فى الخندق الروسى فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية.
والحقيقة إن مثل هذا الطرح فيه قدر كبير من المبالغة ,فالصين ليس من سماتها التسرع والرد الإنفعالى بل تتسم بقدر كبير من الحكمة والتعقل , وتنأى عن الإنزلاق لمكاسب تكتيكية.
فموقف بكين منذ بداية الأزمة متوازن وإن جنح قليلا إلى موسكو ,يعضده فى ذلك الأرضية المشتركة بين الدولتين فى الدفع بعالم متعدد الأقطاب لا تهيمن عليه واشنطون ,ورفض الزحف الأمريكى تجاه جوارهما الجغرافى الحيوى ,علاوة على مجموعة بريكس الإقتصادية الصاعدة وما تتضمنه من سياسات مالية أهمها فتح المجال لاستخدام العملات الوطنية فى التبادل التجارى والعودة مرة أخرى للذهب كغطاء نقدى وتوفيرالإطار البنكى لتمويل المشروعات الضخمة بالتوازى مع المؤسسات المالية المدعومة غربيا.
إلا أن كل ذلك لا يعنى أن بكين يمكن أن تذهب مع موسكو للحد الذى يستعدى أوروبا ,فالصين تريد استثمار اختلاف الأولويات والذهنية بين أوروبا والولايات المتحدة باعتبارالصين ليست عدوا بالنسبة لأوروبا ,وللصين هدفان فى ذلك ,أولا تقليص أطراف الصراع لعدم مواجهة الغرب جميعا ,وثانيا الحفاظ على المصالح الإقتصادية الضخمة مع أوروبا.
ومن ثم يصعب تصور إمكانية انخراط الصين فى عمليات عسكرية فى اوكرانيا مع الجانب الروسى ,خاصا وأن الوضع القانونى لأوكرانيا يختلف كليا عن وضع جزيرة تايوان ,حيث أن الأولى دولة ذات سيادة بعكس جزيرة تايوان ,وما قامت به موسكو فى اوكرانيا هو عدوان صريح وفقا لميثاق الأمم المتحدة ,وتخشى بكين من شرعنة تلك الممارسات غير الشرعية لأن ذلك سيعد إزدواجية معايير ستخصم من قوة الموقف القانونى والسياسى للصين فى قضيتها الأم وهى استرداد تايوان.
والأرجح أن تستمر بكين فى نهجها المتوازن حيال الأزمة الأوكرانية.

من جانب الولايات المتحدة فهى أساسا تعانى أزمة رؤية وتخطيط ,يتجلى ذلك فى التغيرات العنيفة الفجائية فى السياسات الأمريكية ,فبعد سنوات من الإعداد لسياسة التوجه شرقا,
أعلن الرئيس الأمريكى بايدن خلال قمة جدة التى عقدت الشهر الماضى أن واشنطون ستعيد إهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط كى لا تمكن روسيا والصين لملئ هذا الفراغ.
أيضا لم يستمع بايدن لنصائح العقلاء بالتهدأة مع الروس مقابل التفرغ للعدو الأكثر إزعاجا وهو الصين ,مثلما كان يفعل الرئيس السابق دونالد ترامب ,بل اندفع بايدن بكل عشوائية لمهاجمة روسيا بسبب حربها على اوكرانيا دون استيضاح لمعالم العلاقة مع الصين ,وبينما كان التصعيد مع روسيا على أشده تأتى تلك الزيارة الحمقاء لترفع مستوى التوترمع الصين لأعلى الدرجات ,لتجسد ارتباكا حادا لدى الإدارة الأمريكية وانجرافا إلى هوة بعيدة القاع يتعذر فى ظلامها الدامس استنباط ما الذى تحمله الأيام القادمة ليس فقط لواشنطون بل للعالم بأثره.

أما أوروبا فتعيش كابوسا بسبب الإنسياق خلف الرؤى الأمريكية العشوائية المتعلقة بالعقوبات على روسيا ,وينتظرها شتاء قارص بلا تدفأة وتعانى تضخما حادا وظروفا إقتصادية اطاحت بثلاث حكومات حتى الآن ,ومن ثم ليس من المنطقى وأوروبا تتلوى من جوع الطاقة وشح الأمل أن تفتح على نفسها باب جحيم آخر مع الصين ,قد تبدى انزعاجا من تدهورالأوضاع فى الجزيرة التايوانية وهذا مرده بالأساس القلق حول صناعة الرقائق الإلكيترونية ,قد تصدر بيانات تندد فيها الإجراءات الصينية ,إلا أنها لا يمكنها أن تذهب لأبعد من ذلك ,خاصا مع تنامى أزمة الثقة بينها وبين الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الذى لا يؤتمن والحليف الذى قذف بكرة نارعلى الشارع الأوروبى ,ومن ثم فإن واشنطون بلا حليف أوروبى فى معركتها مع الصين.

ولم تحقق تلك الزيارة المتهورة نتائج محددة سوى إشعال المنطقة ,حيث لم تكن زيارة مدروسة من الأساس محددة الأهداف بطريقة منطقية وعاقلة ,قد يعود ذلك ببعض النفع على الحزب الديمقراطى الذى يعانى كثيرا بسبب الضعف بالغ الوضوح على الرئيس الأمريكى , هذا علاوة على شبهات الفساد والفضائح السياسية المتكررة المتعلقة بابنه هانتر ,مما سيكون لهذا تأثيرات محتملة على انتخابات التجديد النصفى للكونجرس .
قد تدفع المخاوف تايوان وكوريا الجنوبية إلى التعاقد على أسلحة أمريكية ,خاصا على ضوء الأسلحة المتطورة التى أظهرتها الصين كالصواريخ الفرط صوتية مما تحتاج إلى تحديث أنظمة الدفاع الجوى ,لكن حتى وإن تحقق ذلك فهى مكاسب تكتيكية لا ترقى لمكافأة الأضرارالجسيمة التى ترتبت على تلك الزيارة الطائشة.

أما الصين فقد تعرضت لأقصى درجات الإستفزاز ولكنها تصرفت بحكمة وبعد نظر معتادة ,وضحت بمكسب تكتيكى من أجل رد فعل قوى ومدروس جيدا ,مجسدة الحكمة التى تقول إن الإنتقام ألذ طبق يقدم باردا.
فليس انتصارا أن تقصف الصين تلك الطائرة الحمقاء ثم تدفع أثمانا لم تتهيأ لها ,الإنتصارهو أن تستعيد الصين تايوان حينما تكون مستعدة لذلك.

وأدعو الصين لتقديم تنازلات مؤلمة فيما يتعلق بإشكاليات بحر الصين الجنوبى وذلك من أجل تحقيق ثلاثة أهداف ,تهدأة محيطها الجغرافى وفتح المجال لاكتساب مزيد من الأصدقاء ,وإجهاض الفرص الأمريكية للتسلل إلى المنطقة ,وتقليص جبهة الصراع إلى حدها الأدنى.
وكل هذا سيمثل دفعة لتحقيق الأهداف السامية , توحيد مضيقى المضيق إعمالا بمدأ الصين واحدة ,والعيش بسلام فى محيط جغرافى صديق أو أقل عدائية إعمالا بمبدأ win win situation الذى تمرست عليه الصين.
واعتقد أن اليابان واوستراليا قد ذهبتا بعيدا فى الصراع بحيث يتعذر استمالتهما ,لكن هناك العديد من دول المنطقة الأبواب إليها ليست مؤصدة وهناك أرضية يمكن البناء عليها.
إن الفوز بمنزل منعزل بين غابة شاسعة محترقة أشجارها ليس فوزا ,واكتساب الأصدقاء المتحلقون حول مضيق ملقا خير من الصراع للسيطرة على البحر ,وإن التشدد فى الإستحواز على معظم مساحة بحر الصين الجنوبى فكرة خيالية باهظة التكاليف ,والتضحية بالبعض من أجل الفوز بالأهم مسألة تستحق النظر.
إن الطريق إلى تايوان-القضية الأم- مفروش بالتنازلات المؤلمة لاكتساب الأصدقاء وإلا سيكون مفروشا بكثير من الدماء والتكاليف الباهظة.
أما على المستوى الداخل التايوانى يفضل التنسيق مع حزب الكومنتانج الأكثر اتساقا مع الصين والعمل على تسهيل وصوله إلى الحكم.
نعيش أجواء مشابهة لأجواء الحرب العالمية الأولى ,حينما كان الصراع الفرنسى الألمانى يقود أوروبا والعالم ويشكل خريطة التحالفات والتحالفات المضادة ,هذا الصراع الممتد قبل اندلاع الحرب لأكثر من خمسين عاما هو ما خلق البيئة الأوروبية الفاسدة التى لم تتحمل إغتيال ولى عهد النمسا فى سراييفو ,مضى بعض الوقت ثم تمترس كل فى خندقه واخرج سيفه من غمده وسكت الجميع وتحدثت الدماء.
الآن بينما العالم يأن من أزمات الطاقة والجوع والتضخم تنطلق تلك الطائرة الملعونة كرصاصة سراييفو.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار